لو كانوا معنا…

منهال الأمين / العهد

(لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا… – آل عمران 156)

لا أستغرب أو أستثقل ولا حتى أندهش، من ما يدلي به صحافيون من مواقف نافرة، بين الفينة والأخرى، بين الاستحقاق والآخر. فالمبالغة في كل شيء أضحت – منذ سنوات خلت –  سمة جعلت أي اختلاف في مسار موقف هؤلاء يبدو نافرًا. فتجد من يمجد الزعيم فلانًا كل الوقت، وفي لحظة اختلاف ينقلب إلى عدو صريح، فلو أحبّ هونًا، لكان كرهه هونًا أيضًا.

وينسحب هذا الأمر حتى في التنظير المهني. إشادة وتمجيد بدور الزملاء حين يبذلون أقصى طاقاتهم وجهودهم وراء الخبر ووراء الحقيقة ووراء ما يضيف إلى المشاهد عن الموضوع، سواء أكان حدثَا آنيًا أم أمرًا له بعد اقتصادي أو سياسي أو قضية فساد، وما إلى ذلك من اهتمامات الرأي العام والخاص على حد سواء.

وكذلك في الاضطرابات والحروب، تقفز إلى الواجهة صورة المراسل الحربي والمصور المقدام الذي يتحدى الواقع الصعب لينقل ما يسميه لنا – نحن المشاهدين – الحقيقة والصورة كما هي. ونرى فيه أو فيها، وللزميلات حصة مساوية تمامًا، الإقدام والعطاء وتجاهل الأنا، إلى حد قد يدفع الصحافيون والإعلاميون، لاسيما المراسلون، حياتهم ثمنًا للتفاني في سبيل العمل الإعلامي، وأحيانًا يُجرحون أو يُعتقلون أو يُلاحقون…

بالأمس وقبله وقبل قبله، وقبل عشرات السنين إلى الأمس القريب، قدم الجسم الصحافي في لبنان التضحيات ولما يزل، نتيجة ما أصاب البلد طيلة هذه السنين، من مآس وحروب واضطرابات، ولما يزل يصيبه. قد نسمع متأسفًا على حياة شاب أو فتاة قضيا أثناء عملهما الصحافي، ولكن أسوأ ما تتأسف به على ميْت، فكيف بالشهيد، أن تقول لو كان … لما كان.

تتأكد تهمة التعليمة يومًا بعد آخر، إلا إذا كان توارد الأفكار يصل حد التماهي كما شهدنا أمس، إذ بعد استشهاد الزملاء في قناة الميادين، انبرى عدد من العاملين في الإعلام وفي الصحافة إلى التأسف عليهم من باب الإساءة إلى عملهم: هل يستحق بعض الدخان المتصاعد من بعيد عند الحدود اللبنانية – الفلسطينية أن يضحي الزملاء بأرواحهم، حتى ينقلوا الصورة والخبر إلى المشاهدين؟!

بعيدًا عن أن هذا السؤال يتضمن جوابه، لأنه استنكاري لا استفهامي، ولكن، دعونا نسأل، تحديدًا هؤلاء الذين اتحفونا بهذا الرأي: ما الذي يستأهل التضحية عند الإعلامي؟

بغض النظر عن رأينا السياسي في أي قناة أو وسيلة إعلامية، فإن الصورة، لاسيما المتحركة منها، التي تعمل عليها هذه القناة بجد، ستكون وسيلة فعالة في صنع الخبر، ما يعني صنع المعرفة لدى المشاهد. وأيضًا بغض النظر إن كانت موجهة أو محايدة. خصوصًا في تغطية الأحداث الحركية: قصف، اشتباكات، مجازر… حتى أن الصورة أحيانًا تصل بالمشاهد حد “الشبع” من تأثيرها، ومع الوقت يعتاد رتابتها فلا تعني له إلا إذا قدمت جديدًا.

أثناء الاعتداءات التي يشنها العدو الصهيوني على البلد، تصبح المهمة الصحافية – والإعلامية تحديدًا – أكثر أهمية، ولا مبالغة أن وصفناها بالقدسية، لأن مهنة المتاعب هنا تستحيل – حكمًا – مهنة التضحيات، فتقترب أكثر وأكثر من مهمة المقاوم وصمود المواطن، لا بل تتفوق أحيانًا، لأن جهدهما، المقاوم والمواطن، قد يضيع إذا لم توثقه وتؤرخ له الكاميرا والرسالة الصوتية والخبر الدقيق…

في الميدان، منذ الثمانينات، اعتمدت المقاومة في لبنان على الكاميرا حتى توثّق عملياتها. خلّدت الآلة الصماء عمليات نوعية ما زالت مشاهدها تحدث في النفس الاعتزاز، كعملية اقتحام موقع سجد، حيث رأينا وسمعنا المجاهدين يهللون ويكبرون، وشاهدنا جثة عميل متدلية على سلم خشبي. كان الأهم هو الذي يحمل الآلة الصماء في يد، وفي الأخرى يحمل بندقية. أنه الإعلامي المقاتل، أو المقاتل الإعلامي، والذي اندرج في ما بعد ضمن “الإعلام الحربي”. في المقابل، فإن تعطل الكاميرا، نتيجة ضعف الإمكانيات، كان لِيحرم “المشاهدين” من فرصة الاطلاع على عمليات نوعية، مثل عملية وادي السلوقي في 29 أيار 1985، التي كانت بإمرة الشهيد القائد سمير مطوط (الحاج جواد)، والتي استشهد فيها المقاومان أمثل حكيم (شقرا) وعباس طالب(كفرا). حينها استهدف المقاومون قافلة صهيونية، حيث كمنوا لها في قلعة دوبيه، وكانت خسائر العدو كبيرة، ولكن تبين أن الكاميرا معطلة ولم توثق العملية.  

ما تقدم نموذج بسيط عن أهمية الصورة. ما رأيناه في غزة من توثيق المقاتلين بالكاميرات المثبتة على البنادق أو على رؤوس المقاومين، ما هو إلا دليل إضافي على أهمية الكاميرا، وكذلك الصورة التي تلتقطها وتوثقها.

إن مهام المقاومين – كما وصفها السيد حسن نصر الله – استشهادية، ولا شك فإن مهام الإعلاميين كذلك، وهي توازي تلك المهام، وتنقل إلى العالم الهمجية الصهيونية. فيما للأعلام حصانته في الشرائع الدولية، فإنه في لبنان وفلسطين يتحول إلى شاهد وشهيد.

في المحصلة، فإن خلفية “الحرص” لدى بعض الإعلاميين، لا يمكن أن تندرج تحت إطار الانحياز إلى الإعلامي الزميل، بل تحت إطار التمييز بين قضية وأخرى، فإذا كان المستهدف خصمًا للمقاومة، حتى لو قضى إثر حادث جنائي، أو على الأقل في حادث غامض، مثل المحرض على المقاومة لقمان سليم، فإن هذا الاستهداف يأخذ أبعادًا فدائية وثورية، ويصدح محبوه بالثبات على نهجه ، ومعهم من يسمي نفسه حياديًا ولكن يدفعه “حسه الإنساني والوطني” إلى التضامن مع موته، لأنه دفع ثمن مواقفه، فلا يُسأل: هل يستأهل موقفه أن يدفع ثمنه حياته؟ بل يرمى من كان يعاديهم من دون أي بينة. وهنا يصبح الموت ضرورة، والاندفاع إليه والاستشراس ضد “العدو” مطلوبًا لذاته، فلهم فيه مآرب أخرى.

أما لو كان العمل الإعلامي المُكْلِف مواكبة للعمل المقاوم، وتوثيقًا لجرائم العدو واعتداءاته، فيجب السؤال عن جدواه.

فهل لو لم ترسل الميادين فريقها الإعلامي لما قتلوا؟، لو كانوا عند “زملائهم” الذين “تضامنوا” معهم بمنشورات قمة في المشاعر المهترئة، أما أصابهم مكروه؟ وصدق حزن من لا يحبهم أصلًا؟

هل يتحسر هؤلاء على ارتقاء الشهداء أم على سقوط خياراتهم هم؟ فلسان حالهم لا “لو كانوا عندنا” بل:

لو كانوا “معنا”، لاحترمنا تضحياتهم، حتى لو كانوا كاذبين محرضين حاقدين، يخترعون ويفترون ولا يبالون.

لو كانوا معنا، لا حرج عندهم في محاورة الناطق باسم العدو، الذي يجزر بشعبنا في فلسطين ولبنان…

لو كانوا معنا في التحريض على المقاومة واتهامها بالولوغ في دم السوريين، وقبلهم في دماء عشرات الشخصيات اللبنانية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن قبل ومن بعد.

لو كانوا معنا: يفبركون الفيديوات وأبطالها أصحاب الخوذ البيضاء في سوريا.

لو كانوا معنا يتهمون أنصار الله بالإرهاب، ويسبّحون باسم حكام السعودية والإمارات الذين يجزرون بالشعب اليمني.

لو كانوا معنا يدعون العدو إلى احتلال بلادنا حتى يؤدب بيئة المقاومة بالمجازر.

لو كانوا معنا ضد المقاومة، كان يمكن أن نغفر لهم كل ما تقدم، إلا أن يقضوا شهداء الواجب والكلمة الصادقة والصورة الواضحة.