جنّة امتدت تحت قدميها، وهي الجريحة اليتيمة الثكلى بضربة واحدة، بصوتٍ غادر واحد دوّى في سيارتها من مسيّرة قاتلة تبعتها مع والدتها وبناتها، وصبّت الحقد الصهيوني فيها نارًا وقتلًا.
حين قال الخال الذي شهد على المجزرة أنّ أصعب ما مرّ عليه هو سماع أصوات الطفلات وهن يصرخن في السيارة وعجزه عن فعل أيّ شيء، احترقت قلوب جميع الأمهات ترقّبًا لوجع الوالدة التي لا بدّ سمعت الصرخات الأخيرة، وهي عالقة على حافة السيارة المحترقة. لم يخطر ببال قلب أن تكون الوالدة على هذا القدر من القوّة الزينبية التي لا ترى إلّا جميلًا، فخرجت إلينا في مقابلة تطمئننا، بدون قصد، من فرط طمأنينتها وتقتلنا حياء وعزّة.
في المقابلة مع السيّدة هدى حجازي على تلفزيون المنار، رأينا جبلًا من أمومة حيّة، يقف صامدًا بوجه أقسى ما قد يمرّ على القلب: فقد الضنا. العبارة وحدها تجعل القلب يرتجف ويركض ملهوفًا لاحتضان فلذاته. ورأينا نورًا سماويًا غامرًا يحدّث بيقين مرئي عن مؤنسات غاليات ثلاث، لا يخشين الموت، يرتبطن بالأرض، يحببن الضيعة والبيت، جميلات كورد الجنوب الذي يتوهّج فوحه عند ارتحاله وكأنّ الرحيل سبيل ولادة العطر.صافيات كالندى على عشب الجنوب، يحنّ على التراب ويذوب فيه كي لا يعطش، حنونات تمسك واحدتهنّ بيد الأخرى وهنّ في السيارة، وكأن عهدًا نما بينهنّ أن لا تفلت الواحدة منهنّ أختها وهن يعبرن الطريق من حضن الضيعة إلى السماء. مؤمنات صاحبات فطرة نقية، كدمعات القلوب وهي ترثيهنّ وكبسمة الوالدة الصابرة التي ربّت فيهن قلوبًا يسكن خوفها بذكر الله.
رأينا ما يشعل في قلوبنا جمر الحياء ونحن ننظر صوب كلمات كنّا نتوقّع فيها انكسارًا طبيعيًا، وهل تُلام كسرة قلب الأم إن نادت بأسماء بناتها وردّ عليها صدى أسمائهنّ على الرخام! لكنّ قلبها امتلأ بحبّ الآل حدّ بلوغه صلابة الألماس، ما زاده الحريق إلّا بريقًا ويقينًا.
تحدّثنا هدى عمّا رأت. يا للهول. يود المرء بداية ألّا يسمع: ستصف الآن مشهدًا كنّا ندعو لها أن تفقده من ذاكرتها. ستحدثّنا كثكلى فقدت زهراتها وكيتيمة فقدت أمّها. هل تحتمل قلوبنا سماع المشهد الذي رأته بعينيها؟ ويذهلنا أنّها حدثت عمّا رأت، وما لم ترَ. بصفاء قلبها المؤمن قالت إنّ بناتها رُفعن داخل عباءة الزهراء، وأنّهن بعين صاحب العصر والزمان، وأنّهن في كنف الإمام الحسين، وأنهن مضين راضيات إلى حيث الأمان والحب والجنّة. رأت بعينها، وعين المؤمن هي الدليل، أنّ صغيراتها غادرن إلى رحاب الله عزيزات مؤمنات محجّبات، واطمئنانها هذا صار حجّة علينا جميعًا، نحن الذين تهزمنا المخاوف الصغيرة، وتكسرنا التجارب.
هذا ما فعلته هدى حجازي بنا. أما عمّا فعلته بالعدوّ، فلا كلمات تفيه حقّه. لقد أصابت بصبرها منه مقتلًا، وبصلابتها حزّت وريد لؤمه وبالتحدّي أبلغته أن كِد كيدك، واسعَ سعيك، فوالله لا ننكسر، ولا نهون، ولا ننتحب ولا نتراجع لحظة عن الحقّ. أبالموت تهدّدنا؟! ها قد قتلت أمّي وبناتي، وما استطعت أن تنتزع منّي بإرهابك نبضة خوف واحدة. ها قد احرقت فلذات كبدي ومن كنتُ فلذة كبدها، فانظرني. هل ترى على وجهي ملامح رعب أو فزع؟! لا والله، ما زدتني إلا يقينًا بوجوب قتالك حتى تزول أو أفنى. هل كان هدفك بقتلنا فكّ ارتباطنا بالمقاومة؟ ما أصغرك. هل يُفك ارتباط الجزء من الرّوح بكلّه!؟ وهل الدم المسفوك سوى رفع لهذي الروح كي تجيد النصر وتستحقه؟
اليوم، هدى حجازي، أجمل الأمّهات، علّمتنا الكثير ممّا كنّا نظنّ أنّنا نعلمه. علّمتنا الصبر الزينبيّ الذي لا يكون على هذا القدر من الجمال إلّا إن تلا جرحًا عظيمًا. وعلّمتنا اليقين الذي يربط على القلوب ويثبّت الأقدام على صراط الحقّ، وأدّبتنا، وبعد أن أمضينا الليالي ونحن ندعو لها بالسكينة، سكّنتنا بوجه باسم وبكلمات سماوية.
اليوم هدى حجازي، الصابرة الراضية القوية، لقنّت العدو هزيمته المرّة. أنبأته بقرب زواله وهي العارفة أنّ دمًّا كهذا الدم هو طلقة في صدر كيان الاحتلال، والمجتهدة في زرع التديّن في القلوب ليتلاقى مع الفطرة السليمة ويؤسس عليها روحًا مؤمنة موقنة، تثق بالله وتنصره فينصرها مهما كان المصاب جللًا. حدّثته، بصوت زينبيّ في مجلس الباطل الكافر، أنّها أمومة تولّدت في حضن كربلاء، هناك حيث الدم الذي ينتصر على السيف، وحيث مدرسة “هيهات منّا الذلّة” وحيث بنت إمام وأخت إمام في الصحراء تسير، ورؤوس حبّات عينيها وإمامها مرفوعة على الرماح، وتلهم كلّ القلوب العاشقة الموقنة كيف تقال “ما رأيتُ إلا جميلا”.