منذ نهاية العام 2021 وحتى نهاية العام 2022، ارتفع سعر صرف الدولار في مقابل الليرة من محيط 27500 ليرة إلى ما يفوق 47000 ليرة، (قبل أن يتراجع في الأيام الأخيرة إلى محيط 43000 ليرة، بفعل قرار مصرف لبنان بفتح سقوف السحب على منصة صيرفة). وبين هذين المعدّلين الكثير من المحطات التي ساهمت بشكل أو بآخر بتغيير سعر الصرف.
وإذا كانت الليرة اللبنانية قد فقدت نسبة مئوية محددة من قيمتها في العام 2022، فإنها فقدت ما يزيد عن 95 في المئة من قيمتها السابقة (1507 ليرات للدولار) منذ بداية الأزمة في العام 2019 وحتى اليوم.
لم يسر سعر صرف الدولار صعوداً بشكل مستمر. فقد تراجع في العديد من المحطات، وإن بشكل مؤقت وظرفي، تأثراً بحدث معيّن، كتشكيل الحكومة على سبيل المثال، ليعود ويستأنف مساره الصعودي منذ 3 سنوات وحتى الأيام الأخيرة من العام 2022.
أما إنفلات سعر الدولار صعوداً وتسارع انهيار الليرة، فكان يستدعي تدخلاً مباشراً من مصرف لبنان، ليس لحماية ما تبقى من قيمة الليرة، إنما للجم انفلات الدولار. واعتاد مصرف لبنان على إصدار التعاميم التي يشبّهها كُثر بـ”هندسات الإفلاس”، ويستهدف من إصدارها خفض سعر صرف الدولار وإن مؤقتاً. وغالباً ما كان ينجح بذلك، قبل أن يستأنف الدولار صعوده.
حلّق سعر الدولار مع بداية العام 2022 بالغاً في حينه 34000 ليرة للمرة الأولى في تاريخه، ما استدعى من مصرف لبنان إصدار التعميم الشهير 161، الذي يتيح بموجبه للمودِعين الذين يملكون حسابات بالليرة اللبنانية، أو موطنة رواتبهم بالليرة، سحب مبالغ من ودائعهم ورواتبهم بالدولار الأميركي وفق سعر منصّة صيرفة.
أحدث التعميم صدمة إيجابية لدى الموظفين والمودعين. فشهدت المصارف حينها والصرّافات الآلية طوابير من المواطنين بهدف الحصول على الدولارات. هذا الأمر دفع بالدولار إلى التراجع إلى مستوى 28 ألف ليرة.
ثم استأنف الدولار صعوده تدريجياً حتى بلغ في منتصف العام 2022 نحو 38000 ليرة، ما استدعى من مصرف لبنان إصدار قرارات لاحقة بالتعميم 161، تفتح المجال أمام المواطنين بجميع فئاتهم لاستبدال مبالغ بالليرة اللبنانية بأخرى بالدولار الأميركي من المصارف، وبسقوف عالية جداً، على أساس سعر منصة صيرفة. وذلك بعد التقدم بطلبات إلى المصارف.
وكالعادة تراجع سعر صرف الدولار مرحلياً، ليعود ويرتفع من جديد في وجه الليرة، مع فارق جوهري في تلك المرحلة، هو تبديد مليارات الدولارات لحساب التجار والسماسرة وتجار العملة، الذين حققوا ملايين الدولارات أرباحاً ناتجة عن مبادلة العملة مع المصارف بسعر يقل عن سعر الدولار الحقيقي في السوق السوداء.
في شهر تشرين الثاني من العام 2022، وبعد بلوغ سعر الدولار مستوى قياسياً آنذاك، بلغ 40 ألف ليرة، أصدر مصرف لبنان بياناً مساء يوم عطلة، أعلن فيه توقفه عن شراء الدولارات من السوق مكتفياً ببيع الدولارات عبر منصة صيرفة.
قرار المركزي حينها جاء تأكيداً غير مباشر بأن إقدامه على شراء الدولارات من السوق، كان الدافع الأول وراء تحليق سعر الدولار بشكل سريع. وقد انعكس قراره تسارعاً في تراجع الدولار، فانخفض في اليوم نفسه إلى مستوى 35000 ليرة خلال ساعات.
من جديد استأنف الدولار صعوده التدريجي من نهاية شهر تشرين الثاني وحتى اليوم، بالغاً مستويات قياسية عند 47500 ليرة (قبل أيام من نهاية العام 2022) غير متأثر بعملية ضخ الدولارات في السوق، التي رافقت وفود مئات الآلاف من المغتربين اللبنانيين في فترة الأعياد.
ويعزو مراقبون ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل مستمر مؤخراً، وبلوغه مستويات هائلة، إلى العديد من الأسباب، منها ما بات راسخاً منذ بداية الازمة ومنها المستجد.
ويمكن اختصار تلك الأسباب الدافعة لانهيار الليرة بشكل متسارع في الأشهر الأخيرة، بإرتفاع حجم الاستيراد من قبل التجار، لاسيما قبل إقرار الدولار الجمركي، وبضخ كميات هائلة من الليرة في السوق لتغطية زيادات رواتب القطاع العام من جهة، ولشراء الدولارات من قبل مصرف لبنان من جهة ثانية. وهو ما توضحه أرقام احتياطاته الأجنبية التي ترتفع بين الحين والآخر. ولا نستثني من هذه الأسباب، عمليات المضاربات على العملة. وهي عمليات مستمرة لطالما ساهمت بارتفاع كبير في سعر الصرف وانخفاضه المفاجئ.
ونظراً لاستمرار كل تلك العوامل وما يسبقها من عوامل مرافقة للانهيار منذ سنوات، وعلى رأسها تخاذل السلطات في صوغ حلول ذات جدوى للجم التدهور الحاصل، ويُضاف إلى جميع تلك العوامل الفراغ السياسي الواقع اليوم على مستوى الرئاسة والحكومة، وترك السوق رهينة التجار والمضاربين، الذين يتناهشون الليرة اللبنانية على وقع قرارات مصرف لبنان وتعاميمه.. لا يستبعد المراقبون استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مع دخول العام 2023.
غير أن ارتفاعه قد يأخذ مساراً متباطئاً بعد إصدار مصرف لبنان في الأيام الماضية قراراً يتيح لكافة المواطنين سحب الدولارات على أساس منصة صيرفة وبسقوف عالية، ما دفع بالدولار أخيراً إلى التراجع عن مستواه القياسي 47500 ليرة إلى محيط 44000 ليرة.