من كتاب : العباسية في ذاكرة قرن
الصور ارشيف : حسين علي قعيق
_____________________
يكاد لا تخفى على ابناء بلدتنا الكرام ، المجزرة الرهيبة التي حصلت في العباسية عام 1978 على يد الصهاينة ، وقد حتّم عليّ الواجب ان اسرد سردا مفصلا هذه الحادثة التي كاد الجيل الشاب ان ينساها وفد تناستها وسائل الاعلام ، لا يوجد سبل النذر اليسير من المعلومات حول هذه المجزرة ، وقد تمثلت في كتاب الامثولة للشيخ علي موسى عزالدين ، الذي سرد بإيجاز صفحات قليلة حول المجزرة ، ولا ننسى تاريخه الراسخ لاسماء الشهداء والجرحى ، ووضعه الصور التي ارخت هذه المجزرة البشعة ، وكذلك الدكتور على عجمي اضاء عليها في كتاباته سيّما في قصّته الراقية ، ” ربما كان حلما ” ، امّا الجرائد والصحف والمجلات فلم تكتب سوى بضعة اسطر حول هذه المجزرة .
سير احداث الاعتداء الضهيوني على العباسية آذار 1978
أجولء ما قبل بداية القصف على البلدة :
قبل ايام من تاريخ الاحد 19-3-1978 ( وهو يوم وقوع مجزرة العباسية ) ، كانت البلدة تحيا بأبنائها حياة هادئة وطبيعية ، ثم راحت تشهد نزوحا لبعض ابناء القرى المحايدة ( وهي المعروفة بمنطقة الشريط الحدودي ) الذين هربوا من قراهم بعد تعرضّها للاعتداءات الصهيونية ، فلجأوا الى العباسية باعتبارها اكثر امنا من قراهم . فعندما بدأت القوات الاسرائليلة بدخول تلك القرى ، اخذ اهلها يتوافدون على البلدة . وفي تلك الاثناء كان يسود الناس جوّ من الاضطراب ، اذ اصبح لديهم احساس بوقوع الحرب ، فبدأ الكثير منهم بالهرب .
نهار الجمعة 17-3-1978 ، اي قبل يومين من وقوع مجزرة العباسية ، اشتدّ القصف الصهيوني على الجنوب وزادت الاجواء توترا ، وكانت الاخبار العالمية توحي بأنه سيكون هناك عمل عسكري على الارض ، فخاف الناس واتخذوا بعض وسائل الحذر كالاحتباء او الهرب .
اما نهار السبت 18-3-1978 ، فقد كانت العباسية لا تزال آهلة بالسكان ، فلو كان قصف البلدة قد تمّ نها السبت بدلا من الاحد لكان عدد الشهداء الذين سيسقطون من جرائه اضعاف عدد الذين سقطوا نهار الاحد ، وذلك لأنّ البلدة كانت مكتظة بالنّاس سواء اكانوا من اهالها الاصليين ، ام من النازحين اليها من القرى المجاورة .
في عصر ذلك اليوم بدأ الناس فعليا بالنزوح الى بيروت ، وقد استمرت حركة النزوح هذه حتى المساء حيث اصبحت العباسية شبه خالية من السكان . وأمّا من بقى منهم ، فقد كان الرعب يسيطر عليهم ، وشبح الموت يخيّم على نفوسهم ، خاصة وانهم كانوا قد عملوا بان القصف كان موجها خلال النهار على المناطق الحدودية وصولا حتى بلدة صريفا ، وانه سيستمر في تقدمه ، فأصبح من المتوقع لديهم ان يصل الى العباسية بين حين وآخر . وكان القصف خلال ذلك متواصلا من البحر والجو ومن منطقة الليطاني ايضا .
وقد بدأت التهديدات الاسرائليلة للقرى الامنة منذ عصر السبت حوالي السابعة مساء ، وقد طالت هذه التهديدات كلا من مدينة صور وبلدة معركة ، فالطيبة ودير قانون النهر ، وصولا الى العباسية ، وقبل ذلك بيومين كان القصف قد طال بلدتي الغندورية وصريفا وما يجاورهما .
ثم بدأت القوات الاسرائيلية التقدم بالشكل الصحيح الساعة الثانية عشر ليلا ، واخذت تتوغل اكثر فأكثر في ارض الجنوب ، حتى اصبحت عند الثانية والنصف بعد منتصف اليل محاصرة بلدة الغندورية استعدادا لدخولها . ثم واصلت تقدمها عند الرابعة صباحا ، حيث كان اهالي العباسية يسمعون في تلك الاثناء ازيز الرصاص ودويّ المدافع ، وقد بقوا على هذه الحال حتى وصلوا القوات الاسرائيلية الى بلدتهم نهار الاحد عصرا ، كما سيمّر معنا مفصلا فيما بعد …
العدوان الصهيوني يطال بلدة العباسية :
طلع فجر الاحد 19-3-1978 ، واشرقت شمسه ، وليتها لم تشرق !!
فالقنيلة الموقوتة قد حان وقت انفجارها ، والكآبة تسيطر على الناس وهم يتتبعون الاخبار عبر الاذاعة ، ولكن ايّ اخبار يسمعون ؟!
فها هي القوات الاسرائيلية تتقدم في المنطقة ، حتى وصلت الى بلدتي صريفا ومعروب ، وازدادت الاوضاع سخونة وحدةّ واصبح وضع العباسية شديد الخطورة ، اذ تحولت الى محور دفاع اخير من جهة ، ومن جهة اخرى كانت القوى الحزبية تلجأ اليها بعد ان ترتدّ عن مواقعها اثر تقدم العدو ، فازداد خوف الناس ، وراح الكثيرون منهم يعبرون الشارع بسرعة ، وقد خالجهم شعور بأنّ هناك شيئ ما غير طبيعي سيحدث !!
ولم تخب ظنونهم تلك ، اذا ابتدأ القصف على البلدة حوالي الساعة التاسعة صباحا ، حيث بدأ خطر الهجوم الاسرائيلي بالظهور يهددّ حياة الناس الامنين في ارضهم بواسطة القصف المدفعي والطيران الذي قام بعدة مناورات ، وذلك بعد ان سقطت اول قذيفة في العباسية فاسقطت معها اول ضحية ، فأخذ الناس بالاختباء اول الامر ثمّ بدأ الكثير منهم بمغادرة البلدة متجها نحو بيروت ، ومنهم من بعث عائلته وبقي هو في البلدة ممّا يدّل على حالة التشتت والضياع التي حلّت بين افراد الاسرة الواحدة .
وبعد ذلك بدأ القصف متقطعا ، ثم تركز برا وبحرا على البلدة وبكل انواع الاسلحة ، اذا استعملت القوات الاسرائيلية في عدوانها القنابل الانشطارية لأول مرة منذ بداية اعتداءاتها . هذا مع الاشارة الى ان القنابل التي سقطت على البلدة في بداية القصف مصدرها كان من حاية بلدتي صريفا ومعروب اللتين كانت القوات الاسرائيلية تربض فيها ، بالاضافة الى الطيران الذي كان منذ البداية يجول ويحلق في الاجواء .
وقد توالى بعد ذلك سقوط القذائف فاشتد احساس الناس بالخطر المحدّق بهم ، ولم يعد بإمكانهم ادراك ما يجري خارج مخابئهم ، وكانت حركة النزوح نحو بيروت خلال ذلك ما تزال مستمرة وبشكل كثيف حيث بلغت حوالي 80% من سكان البلدة ، وقد تم ذلك بواسطة السيارات والشاحنات وكل ما يتوفر لديهم من وسائل النقل ، حتى ان البعض ذكر لنا بانه هرب سيرا على الاقدام بين البراري والحقول .
ومع مرور الوقت كانت تشتد وطأة القصف الصهيوني على البلدة اكثر فأكثر ، ثمّ تواصلت الاحداث على تلك الوتيرة ، فلجأ من بقي من اهل البلدة الى الجامع ظنا منهم انه اكثر امنا مما سواه ، ولكن صادف ان القصف الاسرائيلي اتخذ في سيره خطا مستقيما ، وكان المسجد ضمن هذا الخط ، فدمّر على رؤوس اللائذين به حوالي الساعة الحادية عشر والربع قبل الظهر من قبل الطيران العدو الذي كان قد تدخل فعليا عند الحادية عشر تماما واخذ يحلق في الاجواء ويقوم بغارات وقصف عنيف .
واذا انعمنا النظر في قراءة ما بين السطور يتبين لنا ان القوات العدو استهدفت بلدة العباسية بالذات وتوقفت عندها باعتبارها آخر نقطة وآخر خط احمر تريد الوصول اليه ، ومن الطبيعي ان تكثف القصف عليها كي يحصل الانزال دون ان تفقد جنديا واحدا من جنودها . فالقصف تركز بداية الامر على منطقة الخزان متخذا مسارا مستقيما ومستهدفا منازل كثيرة وصولا الى المسجد والمنطقة المحيطة به ، حتى انتهى اخيرا الى الشارع العام ، مع بعض الاطراف الفرعية المتصلة به مارا بمنطقة الساحة . وبعبارة اخرى نستطيع القول بأنّ قصف البلدة قد تم وفق الخريطة القديمة لها . وكانت اكثر احيائها تعرضا ودمار هي : حي الساحة العامة ، ةحي البركة ، وحي المسجد الذي تركز فيه القصف نسبيا ، وما يحيط تلك الاحياء .
القوات الاسرائيلية تدخل بلدة العباسية :
اخذت وتيرة العملية العسكرية الاسرائيلية تخف تدريجيا منذ الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر تقريبا ، حيث خف القصف وبدأت القوات الاسرائيلية بالانزال والتقدم أكثر فأكثر ، فلم يجد عناصر الاحزاب المسلحة امامهم من سبيل سوى تجميع السلاح واخفائه في مكان امين ، ومنهم من ترك البلدة وغادرها بشكل سري لانه كان lمطلوب من الاسرائيليين .
وحوالي الساعة الرابعة عصرا بدأ يتناهى الى اسماع من تبقى من اهل البلدة هدير الاليات الاسرائيلية فعملوا بقرب وصولهم الى مشارف البلدة وسيطر الخوف عليهم فأخذوا بالخروج من مخابئهم بعد ان حالت شدّة القصف بينهم وبين رئية قريتهم اثناء ساعات ذلك النهار المؤسف .
دخلت القوات الاسرائيلية البلدة على ملالات تحرسها رشاشات ، تمركزت في منطقة البيدر حيث جمعت الرجال الموجودين هناك ، وراحت تستوجبهم في شتى المجالات فور دخولهم البلدة ، كما راح جمودها يتعرضون لكل من يصادفونه في الطريق ويحاولون استجوابه عن اماكن المقاومين ، فكان الجواب سلبيا دائما وبالنفي . ولما لم تلق اجوبة تشفي غليلها وتروي ظمأها سرحت الرجال الذين كانت قد جمعتهم في منطقة البيدر الى منازلهم . ولكي يبرروا عملهم هذا راحوا يعربون عن دهشتهم لأنهم لم يكونوا كما حاولوا اقناع الناس بمفاجاتهم بهذا العدد من الشهداء وقالوا انهم لم يتوقعوا ان يجدوا احدا حيا بعد هذا القصف .
ومن جهة اخرى راحوا يثبون بين الناس انهم قصفوا بلدة العباسية بحجة مسلحين فلسطينيين فيها ، وهم يريدون في الدرجة الاولى القضاء على المقاومة الفلسطينية ، كما تذرعوا بوجو عناصر مسلحة في مسجد البلدة حسب مزاعمهم ، ولذلك قاموا بقصفه .
ومن جراء تلك الاقاويل انتشر بين الناس العديد من الترهات والاشاعات الكاذبة ، فاستنادا الى المعلومات معظم اهالي البلدة اصبح من الثابت لدينا بأنّ البلدة لم تكن مركزا للمقاومة ، ولم تنطلف منها رصاصة واحدة ، وكل ما اشيع بين الناس في هذا الشان انما اطلقته اسرائيل ليكون مبررا لفعلها العدواني فهدمها الحقيقي كان يقضي بتدمر البلدة قبل ان تدخلها لأنها كانت تعدها اخر نقطة تريد الوصول اليها ، ولذلك كانت تحرق الارض التي تريد احتلالها قبل ان يتم لها دخولها .
فنهار قصف البلدة لم يكن فيها اي مسلح لأنهم اكثرهم كان قد هرب ، واما من بقي منهم فقد كان أعرل من السلاح ، ومن ناحية اخرى بات معلوما بل مؤكدا لدينا ان اسرائيل لا تفرق واقعا في قصفها الهجمي بين انسان مسلح واخر غير مسلح .
تمركزت القوات الاسرائيلية في العباسية وخاصة في منطقة البيدر ، وخاصة على التلال المشرفة على القرية . فهذا ما قامت اسرائيل بزرعه في ارضنا ، ترى ماذا كان حصادها ؟؟ هذا ما سنعرفه من خلال عرضنا لنتائج ذلك العدوان المشؤوم !!
نتائج العدوان الاسرائيلي على البلدة :
ما ان خفت وتيرة القصف الاسرائيلي ، اخذ الناس يخرجون من مخابئهم ، فاذا البلدة في حالة يرثى لها ، جثث مقطعة الاوصال منشرة هنا وهناك ، في الشوارع والازقة التي سدّ الركام معظمها فتعذر عبورها بالسيارات . كما ان هناك جثثا كانت مبتورة الى نصفين ومتناثرة في اماكن متفرقة ، اضافة الى الانين المتصاعد من تحت الانقاض .
وكان نتائج ذلك العدوان ايضا ، ان دمر حوالي 80% من منازل البلدة ، ولا اعلام يسمح له بالدخول ولا مسعفين . وكانت الدبابات الاسرائيلية منتشرة بكثرة ، والركام كثيف ، وكل ما في القرية يوحي بالحزن والكآبة ، وفي هذا الاطار اخذ الاهالي ينتشلون القتلى ، ويقومون بإنقاذ الجرحى والمصابين من تحت الركام .
وأول ما بدأ البحث في المسجد الذي كان قد دمر مع بعض المنازل المجاورة له ، فقاموا بادئ الامر بهدم السطح الاول منه ، وقد استمر العمل بذلك حتى ساعة الغروب ، حيث توقفوا عن متابعة ما بدأوا به لأنّ القوات الاسرائيلية منعت التجوّل مساء ، فعادوا الى ما تبقى من منازلهم على امل العودة صباح اليوم التالي .
ثم يتابع في صباح يوم الاثنين 20-4-1978 تواصلت عمليات البحث مع بزوغ الفجر التالي ، فتم انقاذ من كان لا يزال على قيد الحياة ، وانتشال جثث الشهداء . وقد حاول بعض الصحافيين في ذلك النهار دخول البلدة ، ولكن منعهم اليهود من ذلك ، ولم يكن هناك من وسيلة اعلام سوى صخافة الجيش الاسرائيلي .
ماذا فعلتم بالجثث بعد سحبها من تحت الانقاض ؟
بدأنا اهالي البلدة من الشهداء ، وقد تمّ ذلك بشكل جماعي اذ كان الاهالي يقومون بحفر حفر كبيرة ، ثمّ يضعون في كل منها اربعة او خمس جثث ، دون غسل او تكفين او حتى صلاة ، فقد كانوا يكبرون فوقهم ثمّ يوارونهم تحت التراب ، وبعد ذلك يسجلون اسمائهم على القبور .
وهكذا التحفت ارواحهم جراحها ، وتوسدت ثرى الارض الندية التي اختضنتهم ، علها تحظى اخيرا بالامان الذي كانت تتوق له في مرقدها الاخير …
وكلم ضم هذا التراب في صدره من كانوا متفرقين ، اذ لم يكن جميع الشهداء من اهالي البلدة ، بل كان في عدادهم اشخاص من البلدات الاخرى التي سبق وتعرضت للعدوان الصهيوني فهربوا منها مارين اثناء هربهم ببلدة العباسية ، حتى اذا ما اشتد القصف وانقطعت السبل امامهم ، واستحال عليهم متابعة سيرهم ، لجأوا الى البلدة واحتموا بها فكان نصيبهم ان يعودوا الى بارئهم مطمئنين .
استمرت عملية الدفن هذه حوالي عشرة ايام ، وكلما اكتشفت جثة جديدة ، كانوا يقومون بدفنها . وقد تمّ دفن كثير من الشهداء بدون وجود اهلهم او حتى علمهم بهذا الامر ، حتى ان بعض الاهالي استدلوا على اضرحة ابنائهم وذويهم بعد فترة غير قصيرة ، مما يدل على حالة التشتت والضياع التي المت بأبناء البلدة واهلها .
لمشاهدة الفيديو اضغط هنا فيديو رقم 1
لمشاهدة الفيديو اضغط هنا فيديو رقم 2
لمشاهدة الفيديو اضغط هنا فيديو رقم 3