البحث في شخصية القائد الشهيد قاسم سليماني والمكانة التي احتلها في المقاومة التي خاضتها شعوب ودول المنطقة في مواجهة مشروع الهيمنة الأميركية من فلسطين الى لبنان وسورية والعراق واليمن وباكستان وأفغانتسان، لا بد أن يوصلنا إلى اكتشاف حقيقة أولى تتصل بكونه قد نجح دون تكليف رسمي أو قرار سياسي في الانتقال داخل وجدان حركات المقاومة من قائد إيراني يتولى تنسيق العلاقة بين قوى المقاومة والجمهورية الإسلامية في إيران، ويرعى حاجات هذه المقاومات المختلفة ويتابع معاركها كحليف صادق وصديق، إلى أن يصبح بالنسبة لكل من هذه الحركات والحكومات المعنية بمواجهة الهيمنة الأميركية، كأخ كبير ينتمي لكل من هذه الحركات والحكومات على حدة، بداية بصفة المستشار الخبير والحريص ولاحقا بصفته شريكا في القيادة التي تحمّل فيها خلال المعارك الميدانية مسؤوليات جسامًا وتعرض فيها لمخاطر كبيرة، سواء حيث تجسدت هذه الهيمنة بنسختها العدوانية التي يمثلها كيان الاحتلال، أو بنسختها التي يمثلها الاستبداد الخليجي، أو بنسختها التي تمثلها قوى الإرهاب التكفيري، أو بما جسده الاحتلال الأميركي المباشر.
مع هذا التسلسل الزمني والخط البياني الذي رسمته مسيرة القائد سليماني، صار التنسيق بين حركات وقوى المقاومة متجسدا عمليا بوجود رئيس أركان لجيوش وقوى المقاومة مجمع عليه دون تكليف أو تعيين أو قرار، فقد صار سليماني العارف بظروف ومقدرات كل جبهة وخصوصياتها هو المؤهل ضمنا وبصورة فريدة وسلسة لتولي مهمة لم تنل صفة أو توصيفا، لكنها كانت عمليا رئاسة أركان جيوش وحركات تمسك بالكثير من نقاط القوة في المنطقة، وشكلت هذه الوضعية التمهيد الطبيعي لوجود محور مقاومة يتكامل ويتساند في الميدان قبل تظهيره كمحور، كان معلوما ان القائد سليماني هو رئيس أركان قواته .
لم يكن القائد سليماني بحاجة لصياغة نظرية عن أن القتال ضد الاحتلال في فلسطين وجنوب لبنان والتصدي للعدوان الرجعي الخليجي على اليمن ومواجهة المشروع التكفيري الإرهابي في العراق وسورية ولبنان والنضال لإزالة الاحتلال الأميركي عن أرض العراق وسورية، هي مجموعة معارك في حرب واحدة، وأن الرابط الأعمق بين الذين يقاتلون على كل هذه الجبهات يجب أن يكون إيمانهم بمكانة فلسطين والقدس في قلب مشروعهم الإستراتيجي، كي يستقيم قتالهم نحو الهدف المباشر الذي يتولون السعي إليه، لأن كل شيء يجري في المنطقة يرتبط عضويا بمصير هذا الكيان الغاصب لفلسطين، والقتال لإنهاء هذا الكيان هو ما يجد فيه القائد سليماني ترجمة مهنية عسكرية لتسمية القوة التي يقودها بفيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي.
تاريخيا تبلغ الثورات مراحل نضجها التاريخي، وتثبت أهليتها للاستمرار كقوة دفع تاريخية، بعد أن يتثبت مركزها الجغرافي في قلب صناعة الأحداث، وتمتلك مشروعا تاريخيا وقيادة تاريخية، بأن تصنع رموزها الذين ترسم سيرتهم للشعوب والحركات النضالية مثالا وقدوة، ويتحولون الى ايقونات تجمع النظرية والممارسة، وتترجم بأعلى حالات التضحية مفهوم الثورة، فالإسلام كمحرك ثوري كرس رمزيته الثورية المستمرة بنموذج الإمام الحسين عليه السلام، وقبله وجدت المسيحية نموذجها النضالي المضحي في السيد المسيح عليه السلام. ومن يقرأ تاريخ الحركات التي استوحت من المسيحية والإسلام منهاجها الثوري سيجد لتجربة كل من السيد المسيح والإمام الحسين عليهما السلام مكانة خاصة، وسيجد لظروف عذاباتهما وتضحياتهما وبطولاتهما مكانة أشد خصوصية.
في تجربة اليسار العالمي يتميز اسم تشي غيفارا ويسطع كرمز للثورية والتضحية والنضال، خصوصا للبعد العابر للقوميات والوطنيات الذي جسده غيفارا ولظروف استشهاده على يد العدو الذي يختزن مشروع الاستعمار العالمي الذي تمثله أميركا، ومضمون ما مثله بأدائه الشخصي كجواب على قضية الدولة والثورة.
في المسار الذي رسمه الإمام الخميني (قدس سره) للثورة الإسلامية في إيران، وجسده من بعده الإمام السيد علي الخامنئي، ثمة مفهوم ودور لبناء الدولة في الحفاظ على مفهوم الثورة، وكانت فلسطين تقع في قلب المشروع التاريخي للثورة الإسلامية، وكان بناء جيش من المؤمنين المتعبدين الطالبين للشهادة الهادف لتحرير فلسطين وحماية القدس، يشكل جوهر هذه الإستراتيجية، وكان هذا يستدعي نهضة إسلامية في الدول وبين الشعوب تحت عنوان فلسطين والقدس. ومنذ البدايات كان واضحا أن الثورة الإسلامية قد تعلمت الكثير من قراءة تجارب الثورات العالمية وتاريخ الحركات العابرة للوطنيات والقوميات، ولذلك سعت لتفادي تكرار تجربة الأحزاب الشيوعية، ووضعت الأمانة لفكرة المقاومة وفلسطين معيارا وليس الولاء للجمهورية الإسلامية والتبعية لها. وهكذا تشكّلَ خليط من التحالفات يضم حركات المقاومة في فلسطين على تنوعها وعدم تطابق مفاهميها الفكرية وتباين عدد من الاتجاهات الإسلامية بينها مع نظرة الجمهورية الإسلامية للإسلام، ويضم المقاومة الإسلامية في لبنان، والدولة السورية التي يقودها حزب قومي عربي علماني ، وحركات عراقية إسلامية ومثلها في باكستان وأفغانستان واليمن، لا تتطابق فيما بينها في الكثير من وجوه النظرة العقائدية والسياسية، لكنها تجمع بلا تردد او شبهة على مكانة قضية فلسطين ومشروع المقاومة. واذا كانت المقاومة الإسلامية في لبنان هي النموذج الأشد قربا بينها من الجمهورية الإسلامية فهما ودورا وموقفا، فإن هذه المقاومة بقيادة سماحة السيد حسن نصر الله، نجحت في تجسيد مفهوم محور المقاومة حتى شكلت مع القائد سليماني القاسم المشترك بين جميع هذه الجبهات.
في التجسيد الفكري ورمزية الدور كان القائد سليماني قد قطع نصف المسافة نحو ترجمة مفهوم الثورة الإسلامية، المتخذ من قضية المواجهة مع مشروع الهمينة الأميركية عنوانا له، وحيث لفلسطين مكانة الروح من الجسد، لكن القيادة في هذا المشروع تحتاج رجلا تكاملت فيه خصال الأولياء والشهداء والقديسين، بدرجة الإيمان والتشبع بأخلاق الأنبياء والأئمة، ليرمز للثورة كثورة إسلامية، بأبهى عناوين الحضور وتفاصيلها النابعة من عاطفة صادقة متدفقة نحو النبي والأئمة وأهل بيت الرسول (ص)، وبشجاعة وعلم حرب يقدمان نموذجا لا يضاهى بين قادة الجيوش مستوحيا من تجربة الإمام علي عليه السلام الكثير، واستعداد مفتوح لبذل الدم وصولا لطلب مستديم للشهادة على طريق الإمام الحسين عليه السلام، وصولا لسيرة عملية جمعت الانتصارات التي بلغ بعضها حد الإعجاز العسكري، كمواجهات الأيام الأولى مع تنظيم داعش الإرهابي حول بغداد، الى نماذج شديدة التعقيد في التخطيط والقيادة كانت في قلبها المعركة التاريخية لتحرير حلب التي أشرف على تفاصيلها وقادها في الميدان، وانتهاء بالاستشهاد غيلة على يد الأميركيين، لينتج للثورة الإسلامية أيقونتها التي تعمدت بها تجربة هذه الثورة كمسار تاريخي يقود الطريق نحو فلسطين.
اذا كانت سيرة القائد سليماني ورمزية قيادته لفيلق القدس منحت المصداقية لمشروع الثورة الإسلامية، فإن شهادته أكملت عدتها التاريخية نحو فلسطين.
(*) رئيس تحرير جريدة البناء | نائب سابق في البرلمان اللبناني