ألمانيا تحت رحمة بوتين: بداية عصر التقنين

د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي

 من كان يتخيل للحظة أنه سيأتي يوم تتوقف فيه مدينة نورمبرغ عن إضاءة مبانيها التاريخية، ويقوم مُلّاك المنازل في هامبورغ بتقنين المياه الساخنة، أو تفكر برلين بإطفاء إشارات المرور غير الضرورية في الليل، أو تستغني بوتسدام عن درجات الحرارة المرتفعة في حمامات البخار المحبوبة في ألمانيا؟

ما هي أسباب هذه الاجراءات؟

في الحقيقة تشكل هذه التدابير “بروفة” لما ستصبح عليه حياة المواطنين الالمان، في حال أقدم الغرب الاطلسي على حشر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ودفعه الى استخدام سلاح الطاقة (وبالتالي قطع امدادات الغاز) الذي يراه “حقًّا مشروعًا وقانونيًا” في مواجهة أي تهديد يعتبره خطرًا داهمًا على أمن بلاده القومي.

وانطلاقًا من هذه النقطة، دقّ المسؤولون الالمان ناقوس الخطر، وعمدوا الى  مصارحة شعبهم بنهاية “عصر البحبوحة” والتنعم بفائض الغاز، مثلما فعل رئيس بلدية أولدنبورغ ــ  وهي مدينة في شمال غرب ألمانيا  ــ يورغن كروغمان عندما خاطب مواطنيه قائلًا “من الأفضل أن يكون لديك دش بارد في الصيف، من أن يكون لديك شقة باردة في فصل الشتاء”.

ولهذه الغاية وضع كورغمان خطة مكونة من 30 نقطة لتوفير الطاقة تشمل: إغلاق المياه الساخنة في المباني البلدية، وضع حد للاستحمام الدافئ في المرافق الرياضية العامة، وإلغاء تكييف الهواء في المباني العامة، حتى خلال موجة الحر هذا الأسبوع.

أما التبرير الذي لجأ اليه كورغمان للدفاع عن خطته هذه، فهو “عدم التعرض للابتزاز من قبل بوتين، والتحول إلى الاكتفاء الذاتي من الطاقة”، والتذرع بحماية المناخ، والرد على الزيادة الكبيرة في الأسعار.

ماذا عن الأوضاع في بقية أوروبا؟

إن ما أقدمت عليه بعض المدن الالمانية أعلاه، هو جزء من تدافع يائس في جميع أنحاء أوروبا للحد من استهلاك الطاقة والأسعار، فضلًا عن السعي لتوفير وتخزين الغاز الطبيعي قبل البرد القارس في فصل الشتاء تحسبًا لأي اغلاق روسي لامدادات الغاز تمامًا.

 وعليه، يضع المسؤولون الأوروبيون في حساباتهم، أن روسيا التي أوقفت بالفعل امدادات الغاز إلى دول البلطيق وبولندا وبلغاريا وفنلندا، وقلصت التدفقات إلى الدنمارك وهولندا وإيطاليا، قد توقف مجددًا واردات الغاز في أقرب وقت هذا العام.

 ومن أجل ذلك، حثت المفوضية الأوروبية في 21 تموز الحالي الدول الأعضاء على البدء فورًا في التقنين، وخفض استخدام الغاز بنسبة 15 بالمائة حتى الأول من آذار المقبل، واتخاذ خطوات استباقية والاستعداد لسيناريو (محتمل) بقطع كامل للغاز الروسي كما حدث في الماضي. أمّا أولى الخطوات فتمثلت بتقديم رئيسة المفوضية أورسولا فون دير، خطة وتشريعا يلزم جميع الدول الأعضاء بتبنيه.

تطلب الخطة من البلدان الأوروبية التحوّل من الغاز إلى الوقود البديل، وتدعو الى تحفيز الصناعات على خفض الاستهلاك، وتحددّ أيضًا، طرقًا للمستهلكين لتوفير التدفئة والتبريد. من هنا كان عنوان الخطة: “الطاقة التي يتم توفيرها في الصيف، هي الطاقة المتاحة لفصل الشتاء”، وفقًا لبيان صحفي للمفوضية.
 
ما هو تأثير الغاز الروسي على المانيا؟
 
 غني عن التعريف، أن قطع إمدادات الغاز الروسية، سيكون له تأثير في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، لكن ألمانيا هي الأكثر عرضة للاضطرابات بسبب اعتمادها الكبير على الغاز الروسي الذي يشكل 30 بالمائة من نسبة الغاز الطبيعي المستخدم في إنتاج الكهرباء والتدفئة المنزلية فيها.
 
أما الخوف الأكبر فهو توقف امدادات الغاز عن خطوط الانتاج الصناعية وهو ما سيضع برلين أمام كارثة قطع بعض الصناعات غير الأساسية ما سيؤدي الى تداعيات كبيرة على أكبر اقتصاد في أوروبا.

 من هنا جاء وصف المستشار الألماني أولاف شولتز في مقال رأي في صحيفة “فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج” الاسبوع الماضي، أن “بوتين يستخدم الطاقة كسلاح”. وأضاف: “حتى الاتحاد السوفياتي لم يفعل ذلك خلال الحرب الباردة”.
 
لذلك، وفي محاولة للتخلص من الرباط الروسي الذي قد يشده بوتين على خناقها في أية لحظة، تستعجل ألمانيا بناء محطات للغاز الطبيعي المسال، كما أنها وقعت صفقات استيراد جديدة للغاز، مع كل من الولايات المتحدة وقطر. والأدهى أنها لم تكتفِ بالتراجع مؤقتًا عن قرار إيقاف محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم، بل انها تفكر في إبقاء بعض محطات الطاقة النووية قيد التشغيل وهو أمر كانت الحكومة السابق قاومته بشدة.
 
ما هو حجم كميات الغاز الموجودة في منشآت التخزين الالمانية حاليًا؟

حتى قبيل اندلاع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كانت منشآت تخزين الغاز في ألمانيا، والتي تعد الأكبر حجمًا في الاتحاد الأوروبي، تنفد. فمستويات التخزين في شباط/ فبراير الماضي، وصلت الى أقل من الثلث.
 
كانت منشأة ريهدن للتخزين ـ من كبريات منشآت التخزين في أوروبا وتملك القدرة على استيعاب أكثر من 4 مليارات متر مكعب من الغاز ـ ممتلئة بنسبة أقل من 1 في المائة. (للعلم فإن هذه المنشأة كانت خاضعة لسيطرة شركة تابعة لشركة غازبروم) ولاحقًا انتعشت مستويات التخزين إلى 64.6 في المائة بشكل عام، وبلغت 32.4 في المائة في ريهدن، التي تديرها الآن جهة تحظى بثقة حكومية.
 
لكن الجهود المبذولة لزيادة الطاقة الفائضة توقفت بعد أن خفضت غازبروم الإمدادات التي تصل عبر نورد ستريم 1 إلى 40 بالمائة من طاقتها الإنتاجية في حزيران/ يونيو الماضي.

أما في الوقت الحاضر، وبحسب تقرير أصدرته وكالة الشبكة الفيدرالية الاسبوع الماضي ــ الجهة المنظمة للكهرباء والغاز في ألمانيا ـــ  فإن “منشآت تخزين الغاز يتم استنفادها جزئيًا”، وبالتالي هذا التطور يجعل من الصعب تحقيق مستويات التخزين المطلوبة لفصل الشتاء، ويقلل من الاحتياطات لحالة نقص الغاز.

لهذا هناك مخاوف (رسمية) بشأن القدرة على الوصول إلى هدف الحكومة لمستويات التخزين الإجمالية البالغة 80%، بحلول 1 تشرين الاول/ أكتوبر و90% بالمائة مع بداية 1 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
 
هل تجاوب الألمان مع نداءات الحكومة لخفض استهلاك الغاز؟

في الأشهر الخمسة الأولى من العام، استخدم الألمان غازًا أقل بنسبة 14 بالمائة مقارنة بالعام السابق، وفقًا “لاتحاد صناعات الطاقة والمياه في ألمانيا” الذي عزا ذلك جزئيًا إلى شتاء أكثر اعتدالًا، ولكن أيضًا إلى سلوك المستهلك استجابةً لمزيج من الأسعار المرتفعة والنداء لتوفير الطاقة.
علاوة على ذلك، لا تزال العاصمة تضع خططها لتوفير الطاقة، مع مناقشات حول ما إذا كان سيتم إطفاء الأنوار عند نصب بوابة براندنبورغ التذكاري، و200 مبنى عام بعد منتصف الليل، كذلك تعتيم أضواء الشوارع، وإطفاء إشارات المرور ليلا.

ويبدو أن سمعة برلين ستصل إلى مستوى “عدم الكفاءة”، إذ ذكرت صحيفة Tagesspiegel أن المدينة تشغل 1400 مصباح شوارع يعمل بالغاز ليلًا ونهارًا لأن “آلية المؤقت معطلة”!.
 
ومع ذلك يرى خبراء المناخ والطاقة، أنه من أجل اجتياز فصل الشتاء دون تدخل حكومي جذري في سوق الطاقة، يحتاج المستهلكون إلى خفض العرض على المدى القصير، فبالنظر إلى مستويات التخزين الحالية، يجب أن ينخفض الطلب على الغاز من قبل الأسر بنسبة 10 في المائة كحد أدنى، على الرغم من أنه مع انخفاض بنسبة 15 إلى 20 في المائة، وفي حال عدم وجود تغيير في الطلب، فإن البلاد ستصل إلى مستوى الصفر في تخزين الغاز بحلول كانون الثاني/ يناير أو  شباط/ فبراير المقبلين.
 
ماذا عن مساعدة الحكومة الالمانية لمواطنيها؟
 
قامت ألمانيا حتى الآن، بحماية المستهلكين من موجة ارتفاعات الأسعار ـ والتي لولاها كانت ستضاعف فواتير الطاقة ثلاث مرات أو أربع مرات، إذ بات يحق للعديد من الألمان الحصول على دفعة واحدة من المساعدات تبلغ 300 يورو في ايلول/ سبتمبر المقبل، كتعويض عن تكاليف الطاقة المتزايدة.
 
ليس هذا فحسب، تخطط بعض البلدات والمدن لإنشاء “مراكز تدفئة” جماعية خلال فصل الشتاء للفئات الضعيفة في المباني العامة مثل مراكز الترفيه.

في المحصلة، تبدو جميع الإجراءات والتدابير والخطوات التي اتخذتها الحكومة الالمانية لابعاد أزمة الطاقة عنها، آنية ومؤقتة. لذلك تتطلع برلين الى الاتجاه نحو مصادر الطاقة المتجددة كونها الحل النهائي لكل مشاكل الطاقة، لكن حتى ذلك الحين سيبقى شبح بوتين وهو يقفل صنابير الأنابيب رداً على عقوباتهم يلاحق القادة الالمان والأوروبيين حتى في أحلامهم.ش