لم يكن ما حدث في لبنان، في يوم أمس، عدوانًا “إسرائيليًا” تقليديًا، بل إنّ عدوانًا بهذا الحجم والطبيعة يندرج في إطار الإرهاب والإجرام الدولي المنظّم، ويرقى إلى حدّ الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
إذ بشكل متزامن؛ تعرض آلاف اللبنانيين الآمنين، في مناطق متفرقة من الجغرافيا اللبنانية، إلى محاولة اغتيال جماعية في التوقيت ذاته واللحظة ذاتها من خلال تفجير أجهزة اتصال رقمي شخصية يحملونها، والمعروفة بمسمّى “بيجرات”، ما تسبّب باستشهاد أحد عشر مواطنًا لبنانيًا وبجرح ما يقارب 2800.
التقنية المستخدمة في الجريمة
في الوقت الذي أكد فيه حزب الله وقوف الكيان “الإسرائيلي” خلف تلك الجريمة، متوعدًا إياه في البيان الصادر عنه بحتمية الرد “من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب” .. تحدثت تقارير عدة، منها ما هو إعلامي وما هو اختصاصي وتكنولوجي، عن احتمالات ما جرى وكيفيته..
وفقًا لتلك التقارير؛ فإنّ تنفيذ تلك الجريمة يمكن أن يكون قد تمّ في إحدى الطريقتين:
الأولى؛ أن أجهزة “البيجر” قد فخّخت في أثناء التصنيع، أو جرى تعديلها لاحقًا بعد تصنيعها خلال مراحل التوريد عبر وضع كمية صغيرة ( 20 غرامًا ) من المواد المتفجرة بداخلها، ثم جرى تفجيرها لاحقًا من بعد عبر تقنيات برمجية بشكل متزامن. وهو احتمال أشارت إليه الصحافة الأمريكية وخبراء برمجيات محليون وإقليميون ودوليون، مستندين إلى حجم الانفجار الذي حدث، علمًا أنّ الشركة المصنعة للبيجرات (جولد أبولو)، وهي شركة تايوانية، قد أكدت بأنّ المنتج يحمل علامتها التجارية لكن جرى تصنيعه في أوروبا من دون الإشارة إلى الدولة الأوروبية التي جرى التصنيع فيها.
الثانية؛ أن يكون العدو “الإسرائيلي” قد تمكّن من الحصول على النطاق الترددي المستخدم في تشغيل أجهزة “البيجر” المذكورة، ثم قام باستغلال ذلك النطاق لتنفيذ هجوم سيبراني معقد ومتزامن؛ تسبّب في انفجار البطاريات الموجودة في داخل البيجرات. وهو احتمال وارد أشار إليه، أيضاأ العديد من الخبراء المختصين.
إذًا من الواضح، وبما لا يدع مجالًا للشك، بأنّ من خطط لهذا العمل الإرهابي الضخم يمتلك تقنيات وتكنولوجيا عالية الدقة واستخبارات قوية مكّنته من تنفيذ جريمته. وهذا ما يؤكد بأنّ هذا العمل الإرهابي تقف خلفه دول لديها تكنولوجيا متطورة وتقف خلفه أجهزة استخبارات محترفة، وهو ما يستحيل على الكيان “الإسرائيلي” أن يقوم به منفردًا من دون مشاركة دول متقدمة ولها تاريخ وتجارب في هكذا أعمال إرهابية قذرة؛ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصًا، وحلفاؤها بالعموم..
إنّ قراءة الحدث، إقليميًا ودوليًا وفي سياق المعركة المفتوحة والمستمرة منذ ما يقارب العام بين جبهة المقاومة من جهة والمحور الصهيو-أمريكي من جهة أخرى، ونتائجها الكارثية على الكيان “الإسرائيلي” والنفوذ الأمريكي في المنطقة، والانسداد الحاصل في وجه واشنطن و”تل ابيب”، يدفع للقول بأنّ الولايات المتحدة و”إسرائيل” قررتا الانتقال إلى مرحلة جديدة من التصعيد في محاولة بائسة لتغيير معادلات الاشتباك ونتائج الصراع..
التورط الأميركي في الجريمة
بخلاف ما أعلنته الإدارة الأمريكية عن عدم علمها بالعملية الإرهابية، ونفيها أن تكون شريكة فيها، سواء قبل التنفيذ أم خلاله، فإنّ مؤشرات وقرائن ومعطيات تقنية وسياسية وتكنولوجية ولوجستية عدة تشير إلى المسؤولية الحتمية لواشنطن عن تلك الجريمة ومشاركتها فيها تخطيطًا وتنفيذًا. ويمكن إيجاز بعض تلك المؤشرات بالآتي:
1- تشير المعطيات اللوجستية والرادارية بأنّ طائرة استطلاع أميركية من نوع MQ-4C كانت تجري مسحًا جويًا قبالة السواحل اللبنانية، قبل ساعات من وقوع العدوان الإرهابي وحتى تنفيذه. وهو إجراء مشابه لما جرى قبيل تفجير مرفأ بيروت منذ سنوات، وكذلك الأمر قبيل اغتيال القائد فؤاد شكر منذ شهرين.
2- شهدت الأشهر السابقة مفاوضات مكثفة في واشنطن، وتحديدًا في “البنتاغون”، بين الجانبين الأميركي و”الإسرائيلي” على الصعيدين العسكري والاستخباراتي وبحضور وزير الحرب الصهيوني “يوآف غالانت”، قدمت خلالها واشنطن عروضًا وخططًا للكيان “الإسرائيلي” تتضمن المساعدة في توفير التقنيات والأجهزة الدقيقة التي تمكّنها من تنفيذ عمليات الاغتيال والمراقبة.
3- من المعروف بأنّ الولايات المتحدة، وخلال السنوات الأخيرة، جهدت لإنشاء تحالفات تكنولوجية خاصة بالصناعات الرقمية وصناعة الرقائق الإلكترونية، وخاصة في آسيا، مثل تحالف “فاب 4” الذي يضم إلى جانبها كلّ من تايوان و كوريا الجنوبية واليابان، وتحالف آخر من 10 دول يضم إلى جانبها دول جنوب شرق آسيا، وهو ما يجعلها المتحكّم الأول و المسيطر على صناعة الأجهزة الرقمية على المستوى العالمي تقنيًا واقتصاديًا، ويسهم بإخضاع كبرى الشركات الرقمية لدوائر القرار الأمريكي، بما فيها وكالة الاستخبارات.
4- قامت الولايات المتحدة، وفي خطوة مفاجئة، وقبل ساعات من وقوع العدوان الإرهابي على لبنان بفرض عقوبات على إحدى الشركات “الإسرائيلية” العاملة في مجال البرمجيات، ومقرها في اليونان، ولها فروع في دول شرق أوروبا. وذلك بحجة تطويرها لبرنامج قادر على اختراق الأجهزة الرقمية والتجسس من دون الحاجة للضغط على الروابط. وتبدو هذه الخطوة المفاجئة وكأنها نوع من التستر وإخلاء المسؤولية عن حدث قريب الوقوع، مثل عملية تفجير “البيجرات”.
5- عملية تفجير “البيجر” استخدمت فيها “إسرائيل” تقنية عالية الدقة، من خلال رصد الحيز الترددي لتلك الأجهزة، ثم استهدفتها بموجات “كهرومغناطيسية”. وهذ التقنية العالية لا تمتلكها “إسرائيل”، فأقصى ما تملكه هو فقط تحديد الحيز الترددي، أما استهداف الأجهزة اللاسلكية بتلك الموجات فهي عملية أمريكية، ما يثبت شراكة الولايات المتحدة الأمريكية في الجريمة. وهذا ما أكده الخبير العسكري المصري ورئيس جهاز الاستطلاع المصري الأسبق اللواء محمد عبد المنعم.
6- سبقت العملية الأرهابية اتصالات مكثفة وتصريحات كثيرة صادرة عن الجانبين الأميركي و”الإسرائيلي”، وجميعها تحمل تهديدات لحزب الله ولبنان بقرب تنفيذ عمل عسكري أو عدوان إرهابي لتحييد الحزب عن دعم غزة والمقاومة الفلسطينية. وقد أعلن نتنياهو ذلك، صراحة، بعد اتصال أجراه مع بايدن قبل أيام، وكرّر وزير حربه وحتى معارضيه المستوى نفسه من التهديدات.
7- جرت العادة أن تلجأ واشنطن، سواء بشكل مباشر أم عبر حليفها “الإسرائيلي”، إلى عمليات الاغتيال والتفجيرات قبيل كل جولة لمسؤول أميركي إلى المنطقة منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في محاولة للضغط وفرض شروط سياسية لمصلحتها ومصلحة حليفتها “إسرائيل”. وهو أمر تكرر مرات عدة قبيل جولات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في المنطقة، وقبيل كل زيارة لمبعوث بايدن إلى لبنان “هوكستاين”، علمًا أنّ الأخير كان قد أنهى زيارته للكيان “الإسرائيلي”، يوم أمس، وكان يستعد لزيارة بيروت في محاولة جديدة للضغط على حزب الله لوقف عمليات الإسناد، بما يسمح بعودة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة، وأيضًا وصل، صباح اليوم، وزير الخارجية بلينكن إلى القاهرة في جولة جديدة له في المنطقة.
8- مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية وعجز إدارة بايدن عن الصغط على نتنياهو لتمرير تسوية إقليمية، لم يعد أمام الديمقراطيين من خيار سوى تنفيذ ما تطلبه منهم الحكومة “الإسرائيلية، والتي يرى رئيسها المجرم نتنياهو بأنّ الفرصة سانحة أمامه للحصول على أكبر دعم أمريكي ممكن لتنفيذ سياساته الإجرامية.
9- في ظل العجز الأميركي عن مواجهة أنصار الله/الحوثيين، بعد أن أظهروا من البأس والتقدم التكنولوجي العسكري ما يمكّنهم من تغيير قواعد الاشتباك والخارطة “الجيوسياسية” في الإقليم خاصة بعد امتلاكهم للصواريخ الفرط صوتية ذات المديات الكبيرة، فإنّ واشنطن تسعى للضغط من خلال جبهة لبنان/حزب الله ظنًا منها أنّ ذلك قد يعيد لها شيئًا من التوازن والتأثير المفقود، وأنّه قادر على تحسين صورتها المتهالكة في أعين حلفائها الإقليميين، وخاصة من يستعدّ منهم للتوجه إلى روسيا لحضور قمة “بريكس”.
أخيرًا؛ إنّ العمل الإرهابي الجبان الذي استهدف لبنان وشعبه ومقاومته هو إرهاب دولي أمريكي أولًا و”إسرائيلي” ثانيًا، وإنّ الولايات المتحدة تعمدت أن يكون حجم هذا العمل الإرهابي كبيرًا، وتريد القول بأنّها ما تزال قادرة على خلط الأوراق من جديد على المستويين الإقليمي والدولي، وهي أرادت إيصال رسائلها بهذه الطريقة الوحشية وغير الإنسانية.
لكن، في الوقت ذاته، هذا العمل الدنيء يعكس مدى الوضع المأزوم الذي وصلت إليه الولايات المتحدة على المستويين الداخلي والخارجي، والمأزق الذي أصاب استراتيجياتها الإقليمية والدولية، وأنّ عالم اليوم لم يعد كما كان بالأمس، وأنّ عالمًا جديدًا يولد، وليس باستطاعتها إيقاف ذلك، مهما مارست من إرهاب دولي.