د. علي دربج باحث ومحاضر جامعي.
لا تكلّ او تملّ الولايات المتحدة الاميركية عن تحريض دول العالم ـــ من مشرقها الى مغربها، وآخرها أستراليا- وتأليبها على المقاومة في لبنان، من اجل وضعها على لائحة الارهاب، فضلا عن اتهامها بممارسة او رعاية نشاطات اجرامية في العديد من البلدان، حتى دون ادنى دليل او حجة، فقط لكونها تشكل رأس حربة في مواجهة المشاريع والمخططات الصهيونية في لبنان والمنطقة.
في الواقع فإن تجريم المقاومة، ليس الا حلقة من سلسلة اكاذيب اميركا الكبرى التي لا تنتهي. للأسف، أصبح الأمريكيون متسامحين بشكل ملحوظ مع الأكاذيب المريحة، ويفضلونها عمومًا على الحقائق المزعجة. يُقال إن أول ضحية للحرب هي الحقيقة، وبما أن الولايات المحتدة في دائمًا في حالة حرب ــ مع المقاومة وكل من يعارض واشنطن ـــ فإنها ستستمر في تعذيب معتقليها، وهي الحقيقة الواضحة التي تقودنا الى انها من الدول الرائدة في الممارسات الارهابية، والجرائم الانسانية، وبانتهاكاتها لحقوق الانسان وكرامته الانسانية، التي تتباكى عليها ليلا نهار، وما ملف جرائم الحرب الخاص بتعذيب المعتقلين لدى (CIA) ــ وهو بحوزة المحكمة الجنائية الدولية حاليا ـــ الا دليل واضح على ارهابها، ووصمة عار تضاف الى سجلها الحافل بالجرائم والافعال الوحشية التي تشبه كل شيء إلا الانسانية.
النكتة السمجة هنا، هي النشرات والبيانات الصحافية، واللوائح الحقوقية، التي تصدر دوريا عن واشنطن، وتدعو فيها الدول الى “مراعاة المادة 5 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واللتين تنصان على “عدم جواز تعرض أحد للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة “، وضرورة “حماية جميع الاشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، الذي اعتمدته الجمعية العامة في 9 كانون الاول/ ديسمبر 1975”.
ولكي يكون كلامنا ذا مصداقية بعيدا عن الشعبوية والبروغندا الاعلامية، سنوضح، بالأدلة، ممارسات واشنطن الوحشية. فلنقرأ سويا.
في 27 ايلول/ سبتمبر 2021 ، أصدر المدعي العام المنتخب حديثًا للمحكمة الجنائية الدولية البريطاني كريم خان، بيانًا يشير إلى نيته استئناف تحقيق مكتبه في الوضع في أفغانستان. وأعلن أن أولويته ستكون من الآن فصاعدًا التحقيق في الجرائم التي يُزعم ارتكابها من قبل “حركة طالبان” و”تنظيم الدولة الإسلامية” – ولاية خراسان (IS-K). أما الجرائم الأخرى، بما في ذلك تلك التي يُزعم ارتكابها من قبل أفراد وكالة المخابرات المركزية، فسيتم استبعادها من الأولوية. (طبعا رضوخا للضغوط الاميركية الكبيرة التي مورست عليه). وهنا بالتحديد، لا بد من التوقف عند هذه النقطة الجوهرية، وطرح الاسئلة التالية:
ما قصة هذه الجرائم؟ ومن الجهة التي ارتكبتها؟ ومن امر بها؟ وما هو تصنيفها؟ اليكم الاجابة.
فلنعد بالزمن الى ولاية الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش. فغداة احداث11 ايلول، وتفويضه المخابرات المركزية CIA بصلاحيات موسعة، قامت الوكالة باعتقال واحتجاز واستجواب ما يقرب من 119 من مقاتلي “طالبان” و”القاعدة” ونشطاء مزعومين. تم إجراء الاستجوابات في عدد من البلدان التي اطلق عليها لقب “المواقع السوداء”، وتشمل: افغانستان ورومانيا وليتوانيا وبولندا، وهي دول أطراف في نظام المحكمة الدولية، إضافة الى المغرب وكوبا وتايلاند، وهي دول ليست أطرافاً.
القضية الظاهرة للمحكمة الجنائية، والتي تعتبر دليلا موثقا ومفتوح المصدر لا يمكن تجاهله، مفادها أن سلوك وكالة المخابرات المركزية تجاه المحتجزين لديها (وبينهم اشخاص لا علاقة لهم بـ”الارهاب” في أراضي الدول الأطراف في المحكمة)، يرقى إلى جرائم الحرب المتمثلة في التعذيب والمعاملة القاسية عملا بالمادة 8(2)(ج)(1) من نظام روما الأساسي، والاعتداءات على الكرامة الشخصية عملا بالمادة 8(2)(ج)(2)، والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي، عملا بالمادة 8(2)(ه)(6).
ولكن ما هي تلك الأدلة؟ فلتابع معا.
في 28 كانون الاول 2003، وقع مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك، جورج تينيت، على الإذن لضباط وكالة المخابرات المركزية لاستخدام ما يسمى بـ “تقنيات الاستجواب المعززة” (EITs) للحصول على معلومات استخبارية من المعتقلين، بما في ذلك الأوضاع المجهدة، والحرمان من النوم لأكثر من 72 ساعة، وربط المعتقلين بالسقف، والصفع، والحبس في أماكن ضيقة تحتوي على حشرات، والغمر في الماء.
كما تضمنت هذه التقنية فرض ظروف قاسية أثناء الاحتجاز، بما في ذلك استخدام الحبس الانفرادي، والأغطية، والنظارات الواقية السوداء، وسماعات الأذن الحاجبة للصوت، وتعريض المعتقلين تارة للبرد الشديد، وطورا للحرارة الشديدة، إضافة الى استخدام الكلاب، والعري القسري، والحفاضات، والإذلال الجنسي، وما يسمى بمعالجة الجفاف بالتغذية عن طريق الحقن الشرجية. وقد تعرض لهذه المعاملة الفظيعة، مئات المعتقلين في اقبية وكالة المخابرات المركزية.
في رسالة رفعت عنها السرية في 2015 مرسلة إلى محاميه، وصف احد المعتقلين في وكالة المخابرات المركزية ـــ وكان نقل إلى خليج غوانتنامو في كوبا ــ ما تعنيه “تقنيات الاستجواب المعززة” EITs عمليا.
قال المعتقل “عندما تم تعليقي بالسقف، كان هناك حوالي 20 عنصرًا… كنت عارياً، جائعاً، وجسمي مصابًا بالجفاف، واحيانا ملفوفا بغطاء بارد، مهددا لفظياً، وكنت اعاني من الالم بسبب الضرب والإيهام بالغرق. كانوا يضربون برأسي الجدار عشرات المرات وبشكل متكرر، كانت أذناي تنفجران من الموسيقى القاسية الصاخبة، بحيث كانت اصواتها كالانفجارات (لا تزال عالقة في رأسي)، وقد حرمتني من النوم لأسابيع.
كنت أرتعش وأرتجف، ساقي بالكاد تدعم وزني، حيث تم سحب يدي فوق رأسي، بعد أن اشتكيت من أن الأصفاد كانت مشدودة للغاية، كما لو انها ستقطع معصميّ، ثم بدأت ساقاي في التورم نتيجة التوقيف الطويل، فكنت اصرخ، الى ان جاء الطبيب وعمد الى لف ضمادة حول ساقي، ثم أخبر الطبيب المحققين بأن ساقي ستزداد تورمًا. وهنا انتابتني الصدمة”.
الان لنتعرف على المسؤول عن هذه الفظاعات.
تشير هذه الأدلة إلى أن كبار المسؤولين في الحكومة والمخابرات الأمريكية في تلك الفترة، بمن فيهم نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الخارجية كولين باول، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، والمدعي العام جون أشكروفت، ومستشار البيت الأبيض ألبرتو غونزاليس، ومدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت، وسكوت مولر، المستشار العام لوكالة المخابرات المركزية، سهلوا وساهموا وعلموا بارتكاب هذه الجرائم، عملا بالمادتين 25(3)(ب) و(ج) و(د) و28(أ) من نظام روما الأساسي، ولكنهم لم يفعلوا شيئا لمنعها أو لمعاقبة المرتكبين.
تم استخدام تقنيات الاستجواب المعززة وظروف الاحتجاز القاسية بتوجيه من كبار مسؤولي وكالة المخابرات المركزية، وبمعرفة وموافقة أعلى المستويات في الحكومة الأمريكية. على سبيل المثال في 29 تموز/ يوليو 2003، اجتمع تشيني، ورايس، وأشكروفت، وغونزاليس، وتينيت، لمناقشة استخدام وكالة المخابرات المركزية الحالي والماضي والمستقبلي لهذه التقنيات على المعتقلين.
في الاجتماع، تحدث مولر عن تقنية الإيهام بالغرق، وذكر أنها استخدمت ضد شخصين من معتقلي الوكالة، الاول 183 مرة، والثاني 83 مرة. بدوره أكد نائب الرئيس تشيني أن وكالة المخابرات المركزية كانت تنفذ سياسة إدارة بوش من خلال العمل ببرنامج الاستجواب الخاص بها. وفي اجتماع لاحق، في 16 ايلول/ سبتمبر 2003، تم إبلاغ باول ورامسفيلد بالمثل (اي انهما ينفذان سياسة بوش).
المثير ان عناصر الوكالة كانوا يعون ما اقترفته ايديهم من جرائم بحق الانسانية. ففي مراجعة المفتش العام لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية جون هيلجرسون في ايار/ مايو 2004 لبرنامج EIT، أعرب ضباط وكالة المخابرات المركزية له، عن قلقهم بشأن إمكانية اتخاذ إجراء قانوني نتيجة مشاركتهم في برنامج الاستجواب. قال أحد الضباط إنه “يخشى أن ينتهي الأمر بضباط وكالة المخابرات المركزية ذات يوم على “قائمة المطلوبين” للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. بدوره اشار آخر الى انه “بعد عشر سنوات من الآن سنأسف لأننا نفعل هذا … [لكن] يجب القيام بذلك”.
اكثر من ذلك، اعترف العديد من كبار المسؤولين في الحكومة والمخابرات الأمريكية بمشاركتهم، بما في ذلك في المقابلات التلفزيونية وفي مذكراتهم الخاصة؛ فالرئيس أوباما اقرّ بأن الحكومة الأمريكية، وبعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، فعلت بعض الأشياء الخاطئة… عذبنا بعض الناس”.
المحزن في الامر، ان سلوك وكالة المخابرات المركزية اصبح متاحا الاطلاع عليه من الجمهور الاميركي الذي (لم يحرك ساكنا)، بالرغم من أن الملخص التنفيذي لتقرير “لجنة مجلس الشيوخ الأمريكية المختارة للاستخبارات”، الصادر في كانون الاول/ ديسمبر 2014 عن “برنامج وكالة المخابرات المركزية للاحتجاز والاستجواب” (تقرير SSCI) يحتوي على تفاصيل الطب الشرعي حول برنامج تقنيات التعذيب. وهو يعتمد على أكثر من ستة ملايين صفحة من الكابلات التشغيلية، وتقارير الاستخبارات، والمذكرات الداخلية، ورسائل البريد الإلكتروني ومواد الإحاطة ونصوص المقابلات والعقود والسجلات الأخرى. ويحتوي الملحق رقم 2 على قائمة بأسماء جميع معتقلي “السي آي إيه”، وطول المدة التي قضوها في الاحتجاز.
أتيحت لوكالة الاستخبارات المركزية فرصة للتعليق على تقرير اللجنة قبل إصداره، لكنها لم تقدم أية إشارة إلى أن أي معلومات عن برنامج التعذيب أعلاه غير دقيقة، بل على العكس من ذلك، اعترف مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك، جون برينان (في وثيقة سرية صادرة عن الوكالة في 13 حزيران/ يونيو 2013)، بعد “مراجعة شاملة للدراسة”، بأن EITs استخدمت على المحتجزين الخاضعين لسيطرة وكالة الاستخبارات المركزية، وأكد أن “ظروف حبس ومعاملة المحتجزين البارزين تم فحصها عن كثب على جميع مستويات الإدارة منذ البداية”.
الاكثر اهمية، هو الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، في قضايا تعذيب المخابرات الاميركية لبعض المعتقلين، وقد خلصت فيها المحكمة (بحسب وثيقة صادرة عنها 31 ايار/ مايو 2018) بما لا يدع مجالاً للشك إلى وقوع “انتهاك للمادة 3 من اتفاقية [حظر التعذيب] في جانبها الموضوعي، بسبب تواطؤ الدولة المدعى عليها في برنامج المحتجزين ذوي القيمة العالية للوكالة، من حيث إنها مكنت السلطات الأمريكية من إخضاع مقدم الطلب لمعاملة غير إنسانية على أراضيها “. وليس هذا فحسب، فالقاضية إيلينا كاجان من المحكمة العليا الأمريكية اعترفت مؤخرًا ان “هناك الكثير من الأدلة على أن احد المعتقلين تعرض للتعذيب”.
سلوك المحكمة ترك انطباعا سيئا عنها، إذ ترددت أصداء موجات الصدمة الناجمة عن القرار في أوساط القانون والأكاديميين، وفي هذا الاطار سألت مجلة فورين أفيرز “لماذا لا ينبغي للمحكمة أن تترك أمريكا تفلت من مأزقها؟”. اما “منظمة العفو الدولية”، فقد عبّرت عن “قلقها للغاية من انصياع المدعي العام خان لضغوط الولايات المتحدة السياسية”، وأصدرت بيانًا قويًا يدين القرار.
في المحصلة، ومنعا لأي التباس، قد يقول البعض هناك عدد كبير من الآراء بأن القانون الدولي العرفي، يمنع المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة ولايتها القضائية على الأفراد الذين ليسوا من مواطني الدول الأطراف (واميركا ليست طرفا في المحكمة).
لكن الامر الواضح والجليّ، هو ان الأحكام الواضحة في نظام روما الأساسي، تسمح بمحاكمة الأفراد حيثما ارتكبوا جرائم على أراضي الدول الأطراف. وهنا نسأل هل تمتثل اميركا للمحكمة الجنائية اولا، بدلا من مطالبة الاخرين بالالتزام بسيادة القانون. انها اكاذيب اميركا التي لا تنتهي كحروبها.