فاطمة سلامة
إذا أردنا تعداد الخسائر الداهمة على لبنان جراء الدمار الطارئ على ميناء بيروت، فإننا حكماً سنجد أنفسنا أمام لائحة طويلة جداً. طبعاً، نحن هنا نتحدّث عن الخسارة المادية فقط، أما الخسارة البشرية فهي لا شك خسارة جسيمة لا تعوّض. خسارة أصابت قلوب الكثيرين منا حرقة ولوعة على حكايا مُرّة لأشخاص أصبحوا فجأة ومن حيث لا يحتسبون في عداد الشهداء أو الجرحى أو حتى المفقودين. ولا شك أنّ النكبة التي أصابت مرفأ بيروت أصابت بقوّتها كل لبنان، فتدمير المرفأ يعني تدمير شريان حيوي ورئة يتنفّس منها البلد بأكمله. والمؤسف، أنه لم يكن ينقص لبنان وفي عزّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها سوى توقف مرفأ بيروت عن العمل. ذلك المرفأ -الذي افتتح عام 1894 أمام حركة الملاحة البحرية بعد قرون على وجوده- يشكّل واجهة المرافئ في المنطقة نظراً للامتيازات العديدة التي يتمتّع بها. والإشكالية الكبرى لا تكمن في كلفة إعادة إعمار المرفأ فقط، بل في الوقت الذي سيتسغرقه والذي يُقدّره البعض بما لا يقل عن عامين ليعود كما كان. هذا الأمر يعني حُكماً خلق المزيد من الأزمات وإن كان سيتم استخدام مرافئ بديلة بشكل مؤقّت.
فما المميزات التي يتمتّع بها مرفأ بيروت؟ وما الدور الاستراتيجي الذي يلعبه؟ وكم تبلغ قيمة الخسائر التي لحقت به؟.
مواصفات المرفأ
الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش يتحدّث بدايةً عن مميزات مرفأ بيروت، فيوضح أنّه يملك مواصفات مهمة جداً، حيث يتصدّر المرتبة الـ73 عالمياً والمرتبة التاسعة على مستوى المنطقة. تبلغ مساحته 1.2 مليون متر مربع، ويُشكّل متنفساً مهماً للتجارة في لبنان، اذ تمر عبره 80 بالمئة من حركة التجارة، ويمتلك 4 أحواض يبلغ عمقها بين الـ20 والـ24 متراً بمساحة 660 ألف متر مربع، وهذه ميزة مهمة اذ من النادر أن نعثر في المنطقة على أحواض بهذا العمق، ما يعزّز استقبال بواخر وحاويات ضخمة. ومن مميزات المرفأ أنه يضم 16 رصيفاً. وفيما يتعلّق بالعائدات، يُحصّل المرفأ سنوياً ما بين الـ250 الى 300 مليون دولار الى خزينة الدولة، ومن الممكن أن تصل العائدات الى حدود المليار دولار اذا ما تم ضبط الوضع بشكل صحيح من خلال منع التهرب الجمركي. ويضم المرفأ -بحسب عكوش- حوالى 500 موظف في الملاك، أما خارج الملاك فلدينا أقله 1000 موظف بين مياومين وموظفين يعملون في شركات خاصة.
وبحسب عكوش، يتعامل مرفأ بيروت مع حوالى 300 مرفأ وهو عدد ضخم وكبير جداً، وترسو فيه سنوياً حوالى الـ3200 سفينة في المرفأ، مع إمكانية مضاعفة هذا الرقم نظراً للمساحات الشاسعة التي يمتلكها.
ويؤكّد عكوش أنّ مرفأ بيروت من المرافئ الأساسية، اذ تمكّنه المواصفات المهمة التي يمتلكها من منافسة كل المرافئ في شرق المتوسّط، فهو أفضل بكثير من مرفأ حيفا والمرافئ القبرصية والسورية، وهو الأفضل على واجهة الشرق الأوسط. ويُشدّد المتحدّث على أنّ مرفأ بيروت لطالما كان ينافس نظراً لأهميته مرافئ العدو الصهيوني. برأيه، من مصلحة “إسرائيل” اليوم توقيف هذا المرفأ كي لا يكون محطة للسفن التي تمر عادة لإجراء الصيانة أو التزود بالوقود لأنه يؤثر بشكل كبير جداً على عمل مرفأ حيفا، وبتدميره ستتوسّع دائرة عمل مرفأ حيفا في المنطقة، يقول عكوش، الذي يتوقّف عند الدعاية التي روّجت لها “إسرائيل” في تموز عام 2019 والتي اتهمت المقاومة بتخزين الأسلحة في المرفأ وتحديداً في العنبر رقم 12.
ما سبق من مواصفات يُدلل -بنظر عكوش- على أهمية المرفأ الذي لا يمكن الاستغناء عنه أبداً ليس فقط بالنسبة للبنان بل للدول التي تعتمده في تجارة الترانزيت.
وفي معرض حديثه عن تقسيمات المرفأ، يوضح عكوش أنه يشمل المنطقة الحرة التي تبلغ مساحتها 80 ألف متر مربع. كما يشمل إهراءات القمح التي تستوعب حوالى 200 ألف طن من القمح، ما يمكّننا من حفظ مخزون استراتيجي للبنان يكفي أقله لثلاثة أشهر للاستهلاك المحلي، ولكن للأسف لم يتم استعمال هذه الاهراءات في السابق بسبب المشكلة المالية. كما يضم المرفأ مكاناً لرسو السفن السياحية التي ترسو بداخله وتنطلق منه باتجاه أوروبا وغيرها من الدول. كما يضم مستودعات تشمل كل أنواع البضائع كالسيارات والمواد الغذائية والتجهيزات الطبية.
دور المرفأ الإستراتيجي
ويتناول عكوش دور مرفأ بيروت الاستراتيجي والمهم في المنطقة، اذ بإمكاننا استخدامه في مشروع “طريق الحرير” الصيني والمهم، وقد أعربت شركات صينية عن استعدادها لتسلمه وإعاة تجهيزه وجعله مرتكزاً للتجارات مع العالم. وفق حسابات عكوش، كان من الممكن أن يتحوّل هذا المرفأ الى ممر بحري لطريق الحرير، والى مرفأ عالمي من خلال الشركات الصينية. ولكن للأسف فإنّ العقوبات الأميركية وآخرها قانون “قيصر” أتت لتمنعنا من لعب هذا الدور.
ويوضح عكوش أنّ مرفأ بيروت وقبل الأزمة السورية كان مرفأ أساسياً بالنسبة لدمشق فهو الطريق الأسهل لها، ومعظم التجار في لبنان يستقدمون البضاعة ويعيدون تصدير أكثر من 50 بالمئة منها الى سوريا. وعليه، فإن لبنان كان مركزاً أساسياً للتجارة مع سوريا سواء من ناحية التصدير أو إعادة الترانزيت. وهنا يوضح عكوش، أن العقوبات على سوريا أدت الى ضرب لبنان في الصميم، وهذا ما يفسر تراجع انتاجنا منذ عام 2010 حيث بدأنا نعاني عجزاً في ميزان المدفوعات.
الخسائر
ويتطرّق عكوش الى الخسائر التي لحقت بلبنان جراء تدمير المرفأ، فيوضح أنّ هناك خسائر مباشرة، وأخرى غير مباشرة. الأولى تشمل خسارة المستودعات التي تضم البضائع، وخسارة المعدات والتجهيزات والآلات والرافعات والأبنية والمكاتب وموجوداتها، بالإضافة طبعاً الى الخسائر التي لحقت بمحيط المرفأ من أبنية وغيرها. أما الخسائر غير المباشرة، فهي تأتي جراء تعطل المرفأ عن العمل لفترة طويلة وهذا يُضيّع الإيرادات السنوية التي يحصل عليها المرفأ، ومن غير المعلوم كم سيستغرق البناء الذي قد يطول لأكثر من عامين. ويُضاف الى الخسائر غير المباشرة الكلفة الإضافية التي يتم دفعها من قبل تجار منطقة بيروت الكبرى، إذ إنّ معظم استيراد لبنان لهذه المنطقة. وبالتالي، فإنّ التاجر اذا ما استبدل مرفأ بيروت بطرابلس مثلاً، سيجد نفسه أمام أعباء إضافية تزيد كلفة البضائع.
وعليه، يُشدّد عكوش على أننا لا نستطيع تقدير حجم الخسائر ولا تقييمها بشكل علمي ودقيق بانتظار إعادة تقييمها، فالبنية التحتية الأساسية للمرفأ موجودة على الأرصفة وكاسر الموج. هذه الأماكن هي الأكثر كلفة، ومع تعذر تقييم الوضع فيها حالياً، وما إذا كانت تضررت بشكل كامل أم جزئي، فإننا لا نستطيع تحديد الخسائر بشكل دقيق. لكنّ عكوش يلفت الى أننا إذا أردنا أن نحدّد الكلفة حالياً فعلينا أن ندرس الكلفة البديلة، لأنّ موجودات المرفأ بأكملها كانت مستقدمة على سعر صرف بقيمة 1500 ليرة للدولار الواحد، ولذلك لن نتمكّن من احتساب الكلفة الحقيقية حالياً لبناء المرفأ الا اذا احتسبنا الكلفة البديلة، أو اذا احتسبنا تكلفة المرافئ التي جرى بناؤها حديثاً. على سبيل المثال، مرفأ الدوحة وهو المرفأ الأكثر حداثة اليوم والأضخم بلغت تكلفته حوالى 7.4 مليار دولار، وهو رقم كبير جداً. ميناء طرطوس مثلاً الذي جرى تلزيمه لشركة روسية بهدف توسعته بلغت تكلفته 500 مليون دولار. لذلك، وفي ظل الدمار الشامل والهائل الذي لحق بمرفأ بيروت لنا أن نقدّر أن تكلفته ستبلغ المليارات من الدولارات.
كيف سيعاد بناؤه؟
ولا شك أن التكلفة الكبيرة التي يتطلبها إعادة بناء المرفأ هي تكلفة تفوق قدرة الدولة اللبنانية التي تعاني أصلاً ما تعانيه من أزمات مالية خانقة. وعليه، يرى الخبير الاقتصادي أنّ لبنان ليس باستطاعته إعادة إعمار المرفأ ذاتياً نتيجة العجز المزمن في الخزينة مقابل مواردنا التي تبلغ صفراً، تماماً كما لم يعد لبنان يحتمل القروض. وفق قناعات عكوش، فإنّ أفضل حل هو الذهاب باتجاه الـbot حيث تقوم الدولة بإجراء مناقصة عالمية شفافة لإعادة بناء المرفأ بطريقة التمويل الذاتي وتشترك فيها كافة الشركات. حينها، ستساهم المليارات التي تضخها أي شركة فائزة في إعادة الإعمار في تحريك الإقتصاد اللبناني بشكل كبير. برأي عكوش، علينا أن نحوّل الأزمة التي حصلت الى فرصة ونذهب باتجاه جذب شركات أجنبية لإعادة الإعمار بطريقة التمويل الذاتي وليس القروض، لنأخذ خدمات بمواصفات ومقاييس عالمية دون أن تتكبّد الدولة ليرةً واحدة.
ويُشدّد عكوش على أنّ إدارة الدولة للمؤسسات هي إدارة فاشلة وقد رأينا في هذا الصدد وللأسف نماذج محزنة في الكثير من القطاعات سواء في الاتصالات أو حتى في مرفأ بيروت، حيث إنه وعندما كان يعمل لم يكن يعطي موارد كما يجب للخزينة. كل موارده كانت تذهب هدراً وفساداً. وفق عكوش، علينا كدولة لبنانية أن نستفيد من هذا الواقع ونحوّل النكبة الى فرصة لإعادة انتاج اقتصادنا الوطني.