نور صفي الدين / المدن
غير أن المقطع الأخير في الحلقة، برهن أنّ الاعلام مقيّد بمصيدة الأكثر مشاهدة أو الـviral، حيث استضاف البرنامج، الشاب إيلي، الذي ظهر في إحدى التظاهرات وهو يمجد بحُسن شكله ويطالب الفتيات بالتعرف اليه. بدت المقابلة الأخيرة فاقعة، لتكرّس دونية اللبنانيين تجاه “الأمراء” وجشعهم للمال، وأظهرت تحول الشاب اللبناني الى سلعة تفقد قيمتها بمجرد أنّ تم امتلاكها، لكن العيب فيها أنّها اختزلت الشباب الذين نزلوا الى الشوارع في نموذج قد لا يُعبّر عن الأقليّة حتى، فقط لأنه جلب نسب مشاهدة عالية.
“هل تحاول أن تروج لنفسك عن طريق هذا البرنامج؟” يسأل المقدم ضاحكاً. وكان من الأجدى أن يُسأل هو عن سبب تقديمه هذه المساحة للضيف المشترِك، أو على الأقل أن يُسأل عن القيمة الإضافية من خلال عرض فكرة “رافضي الارتباط بأصحاب الدخل المحدود”. فهذا الضيف، لو لم يسمح له الإعلام بهذه الفرصة، لما استطاع اتخاذ هذا المنبر لنفسه.
يسقط البرنامج في الابتذال مجددًا، عن طريقة أسئلة “البروفايلينغ،” (هل ترضى بالارتباط بمطلَّقة، عمرها، شكلها..)، ليروي عطش المشاهد وفضوله أيضاً، وسرعان ما تحول البرنامج الى حلقة استعراضية لأشخاص رأوا أن الشاشة قد تلعب دوراً في الوصول الى الشخص الذي لم يحالفهم الحظ في لقائه بعد.
وفي حين يوحي عنوان البرنامج بالدعوة إلى تقبّل الآخر، فإنه يحمل في طياته الشعور بالتمرد والرفض على الثوابت المجتمعية، ليبدو أن القبول لا يمكن أن يبدأ إلا بالإقصاء، وأنّ الاختلاف دائماً يأتي ليثبت أحقيته. وفيما قد يكون ما عُرض هو حقيقة ممكنة يتوارى خلفها كثيرون، أغفل البرنامج شريحة كبيرة من المجتمع التي بنت علاقاتها على عوامل أخرى لم يكن المال جوهراً فيها، أو كانت الظروف الاقتصادية تحدياً تم التغلب عليه، ولم يحظَ أي من هؤلاء بحصّة في الحلقة، وهذا الذي غلّب وجهة نظر واحدة.
وفيما يرى علم النفس بأنّ ظاهرة “حفاري الذهب” تنم عن حالة من الاكتئاب، حيث يتسم الشخص باللاطموح وفقدان الرغبة في تحقيق أحلامه، فيلجأ إلى مطاردة أصحاب المال والثروات، تتجلى ثقافة المذيع ونرجستيه ليبدو وكأنه الجمهور الرافض للفكرة، والمُحلل النفسي، والإعلامي الفضولي في شخص واحد: يَحكم، ويُقيّم، ويُسائل من دون أن يسمح لرأي علمي على الأقل بالتدخل لشرح هذه الظاهرة وعواقبها والتحديات التي يمر بها هؤلاء الأشخاص.
صحيح أنّ قناة “الجديد” لبنانية، لكنها وبفعل التمدد الالكتروني، لم تعد تتوجه الى الجمهور اللبناني وحده، بل العربي أيضاً، ويمكن رصد ذلك من خلال مجموعات التعليقات التي تتالت على فيديوهات الحلقة في هذه المنصات التي تشبه محاكم الرأي العام.
وقد استوقفني التعليق الذي عبّر عن شفقة ورثاء تجاه المجتمع اللبناني الذي وصل به الحال لأن يبيع نفسه من أجل 600 دولار في الشهر. وإذا كان الاعلام هو مرآة المجتمع، فإنّ الاعلام اللبناني هو مرآة مجتزأة من الواقع، وهذه الحلقة وإن عكست ما يحصل بشكل انتقائي، فهي كذلك ساهمت في تحقير العديد من اللبنانيين الذين يقبلون بالعمل لساعات طويلة بأجر زهيد من أجل الحصول على عيش كريم.
غير أنّ الفقر لا يعني العوز، ولا يمكن أن يُفهم مغزى الحلقة بمعزل عن الحالة الاقتصادية المتردية التي تمر بها البلاد، فلا يمكن إلا أن تدفع للاعتقاد بأنها زادت ثقل الهمّ على قلوب الشباب المتعلم الذي لم يجد عملًا حتى الآن، وحقّرت الطبقة الاجتماعية الأكبر التي حلّت محلّ الطبقة المتوسطة، وشجّعت الكثيرين مِمَن وجدوا شبهاً لهم في الحلقة إلى الاندفاع نحو الاقتناع بهذا التفكير وتبريره وإعلان استسلامهم.
فضّلت “الجديد” أن تغلف برنامجها بالشعبوية لتعالج مضامين غير مألوفة بطريقة هزلية، لتضمن أنّها ستصل الى أكبر قاعدة من الجماهير، بغض النظر عما اذا كان الوصول مهنياً أم لا.