نيشان يحفر في الطبقية.. بحثاً عن الذهب

نور صفي الدين

نور صفي الدين / المدن

“الفقير حتى أهله ما بحبّوه…” لا ندري كيف تسللت هذه العبارة الى آذان  اللبنانيين الذين كانوا يشاهدون حلقة الاربعاء من برنامج “أنا هيك”.
وفي حين يفترض أن يلعب الاعلام دوراً توجيهياً إيجابياً في ظل اليأس الجماعي الذي حكم على أكثر من نصف اللبنانيين بالفقر، بحسب التقرير الصادر عن “الاسكوا”، انشغل الاعلام اللبناني باختيار موضوع “حفارو الذهب gold diggers” ليُسقِط على اللبنانيين صفة الطامعين بالمال كحل بديل عن المأزق المادي الذي بات يهدد حياتهم.

على الرغم من حماسة برنامج “أنا هيك” في القفز نحو الملفات التوعوية، إلا أنه لا يمكن أن يوضع في خانة البرامج التوجيهية نظراً لسقوطه في إشكالية تجعل من المواضيع مادة “فضائحية” لا تراعي بالمطلق المعايير المهنيّة في بعض الحلقات. وتلك إحدى المشتركات بينه وبعض صف البرامج الاجتماعيّة الأخرى. 

ولطالما سعى هذا البرنامج الى تحويل المساحة الشخصية الخاصة الى مساحة عامة قابلة للتداول، من دون النظر في مصلحة الشخص الضيف أو مصلحة المشاهد، بغية الحفاظ على هوس “الرايتينع”. على إنّ قبول الضيف بالظهور لا يبرر للإعلام تنصّله من تحمل المسؤولية، وإنّ حرية المشاهد في اختيار ما يريد مشاهدته لا يقضي بأن يتصرف الإعلام بلا ضوابط شخصية تراعي مسؤولية اجتماعية تتلاءم مع الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعية الحالية.

يدخل البرنامج مساء الاربعاء في أروقة التصنيفات. يجمع ثلاثة ضيوف في منتصف العشرينات في الاستديو، قد تختلف ظروفهم الحياتية لكن ما يشتركون فيه هو “خوفهم من الوضع الاقتصادي الذي وصلنا اليه”، وليس “حبهم للمال” فقط كما أراد البرنامج أن يوهمنا. 

يخضع كل منهم لتحقيق مباشر على الهواء. يبدو المقدم مستهجناً كل ما يقال، لكنه لا ينفك يطرح الأسئلة التفصيليّة التي قد لا تفيد بشيء سوى تعميق التنميط المكرر. يظهر واضحاً تعمّد التنويع في اختيار العينات، طمعاً في شرعية ما، تتيح التعميم. 

يسمي مقدم البرنامج، نيشان، “برج حمود”، المنطقة التي أتت منها الفتاة ليا، ولا يمكن إغفال مدى التهميش الذي تعيشه هذه المنطقة. يلعب دور الحاكم حين تجيبه الفتاة بأنّها عاشت الفقر ليرد بأنه الآن عرف السبب الذي أوصلها الى هنا، وكأن البديهي أن من عاش الفقر سيتحول بطبيعة الحال الى لاهث خلف الأثرياء. 

يريد البرنامج أن يساوي جندرياً في رغبة البحث عن شريك ثري. فليست الفتاة وحدها من تتمنى الارتباط بشخص ثري، كذلك هو حال “مايكل”، الشاب الذي يحاول عقلنة خياره بأن “الغني للغني والفقير للفقير والكل عليه أن يقدر قيمته”، حيث لا يمكن التعالي على هذه القاعدة أو خرقها. لكن المعالجة لا تلبث أن تقع في فخ الذكورية، فحال المرأة أن تصبر على العنف إذا كانت متزوجة من غني، وحال الرجل أن يبقى صاحب القرار وإن كان مرتبطاً بامرأة ثريّة. 

غير أن المقطع الأخير في الحلقة، برهن أنّ الاعلام مقيّد بمصيدة الأكثر مشاهدة أو الـviral، حيث استضاف البرنامج، الشاب إيلي، الذي ظهر في إحدى التظاهرات وهو يمجد بحُسن شكله ويطالب الفتيات بالتعرف اليه. بدت المقابلة الأخيرة فاقعة، لتكرّس دونية اللبنانيين تجاه “الأمراء” وجشعهم للمال، وأظهرت تحول الشاب اللبناني الى سلعة تفقد قيمتها بمجرد أنّ تم امتلاكها، لكن العيب فيها أنّها اختزلت الشباب الذين نزلوا الى الشوارع في نموذج قد لا يُعبّر عن الأقليّة حتى، فقط لأنه جلب نسب مشاهدة عالية.

“هل تحاول أن تروج لنفسك عن طريق هذا البرنامج؟” يسأل المقدم ضاحكاً. وكان من الأجدى أن يُسأل هو عن سبب تقديمه هذه المساحة للضيف المشترِك، أو على الأقل أن يُسأل عن القيمة الإضافية من خلال عرض فكرة “رافضي الارتباط بأصحاب الدخل المحدود”. فهذا الضيف، لو لم يسمح له الإعلام بهذه الفرصة، لما استطاع اتخاذ هذا المنبر لنفسه.

يسقط البرنامج في الابتذال مجددًا، عن طريقة أسئلة “البروفايلينغ،” (هل ترضى بالارتباط بمطلَّقة، عمرها، شكلها..)، ليروي عطش المشاهد وفضوله أيضاً، وسرعان ما تحول البرنامج الى حلقة استعراضية لأشخاص رأوا أن الشاشة قد تلعب دوراً في الوصول الى الشخص الذي لم يحالفهم الحظ في لقائه بعد. 

وفي حين يوحي عنوان البرنامج بالدعوة إلى تقبّل الآخر، فإنه يحمل في طياته الشعور بالتمرد والرفض على الثوابت المجتمعية، ليبدو أن القبول لا يمكن أن يبدأ إلا بالإقصاء، وأنّ الاختلاف دائماً يأتي ليثبت أحقيته. وفيما قد يكون ما عُرض هو حقيقة ممكنة يتوارى خلفها كثيرون، أغفل البرنامج شريحة كبيرة من المجتمع التي بنت علاقاتها على عوامل أخرى لم يكن المال جوهراً فيها، أو كانت الظروف الاقتصادية تحدياً تم التغلب عليه، ولم يحظَ أي من هؤلاء بحصّة في الحلقة، وهذا الذي غلّب وجهة نظر واحدة.

وفيما يرى علم النفس بأنّ ظاهرة “حفاري الذهب” تنم عن حالة من الاكتئاب، حيث يتسم الشخص باللاطموح وفقدان الرغبة في تحقيق أحلامه، فيلجأ إلى مطاردة أصحاب المال والثروات، تتجلى ثقافة المذيع ونرجستيه ليبدو وكأنه الجمهور الرافض للفكرة، والمُحلل النفسي، والإعلامي الفضولي في شخص واحد: يَحكم، ويُقيّم، ويُسائل من دون أن يسمح لرأي علمي على الأقل بالتدخل لشرح هذه الظاهرة وعواقبها والتحديات التي يمر بها هؤلاء الأشخاص.

صحيح أنّ قناة “الجديد” لبنانية، لكنها وبفعل التمدد الالكتروني، لم تعد تتوجه الى الجمهور اللبناني وحده، بل العربي أيضاً، ويمكن رصد ذلك من خلال مجموعات التعليقات التي تتالت على فيديوهات الحلقة في هذه المنصات التي تشبه محاكم الرأي العام.

وقد استوقفني التعليق الذي عبّر عن شفقة ورثاء تجاه المجتمع اللبناني الذي وصل به الحال لأن يبيع نفسه من أجل 600 دولار في الشهر. وإذا كان الاعلام هو مرآة المجتمع، فإنّ الاعلام اللبناني هو مرآة مجتزأة من الواقع، وهذه الحلقة وإن عكست ما يحصل بشكل انتقائي، فهي كذلك ساهمت في تحقير العديد من اللبنانيين الذين يقبلون بالعمل لساعات طويلة بأجر زهيد من أجل الحصول على عيش كريم.

غير أنّ الفقر لا يعني العوز، ولا يمكن أن يُفهم مغزى الحلقة بمعزل عن الحالة الاقتصادية المتردية التي تمر بها البلاد، فلا يمكن إلا أن تدفع للاعتقاد بأنها زادت ثقل الهمّ على قلوب الشباب المتعلم الذي لم يجد عملًا حتى الآن، وحقّرت الطبقة الاجتماعية الأكبر التي حلّت محلّ الطبقة المتوسطة، وشجّعت الكثيرين مِمَن وجدوا شبهاً لهم في الحلقة إلى الاندفاع نحو الاقتناع بهذا التفكير وتبريره وإعلان استسلامهم.

فضّلت “الجديد” أن تغلف برنامجها بالشعبوية لتعالج مضامين غير مألوفة بطريقة هزلية، لتضمن أنّها ستصل الى أكبر قاعدة من الجماهير، بغض النظر عما اذا كان الوصول مهنياً أم لا.