.كان في بلدتي رجلٌ اسمه أحمد…

.كان في بلدتي رجلٌ اسمه أحمد…! ضحكة من ضحكات بلدتنا المؤنسة، وجزء من تاريخها الطيّب بلكنته الفلاحية المُعَتّقة! كان في بلدتي رجلٌ شفاف هادئ إلى حدّ الصخب المُريح، نبيل من دون تأنّق، متألّق من دون فضاءات الاعجابات الافتراضية،
يحكيك فيشفيك بنغمة قلبه الأبيض الذي لم يتلوّث يومًا بالأذى، فجلّه جمال وودّ واستفزاز لطيف وتعنيف خفيف وابتسامة ثمّ ابتسامة ومن ثمّ سكون!
بلى!
لم يمتلك أحمد صديقًا واحدًا وحسب…! ففي زاوية الشارع العام من بلدتنا كان يقف هناك، يلوّح لهذا، يستوقف ذاك، يستجمع الخير من الوجوه المألوفة ونصف المألوفة… وقلَّ أنْ تراه وحيدَا، يدلّل النكتة من دون تكلّف، ويهوى النقاش على طريقته الخاصّة، وحين يعلو صوته كنّا نعلم دنو هزيمتنا، فنرحل عنه،…تلاقيه بعد دقائق خمس وكأنّك غبت عنه ليوم، يعاود جماله عزف الايقاع ذاته بهدوء ونقد شبه لاذع وابتسامة أخرى…ويمضي وتمضي…!
بلى. في بلدتنا كان الحاج أحمد في السهرة عنوانها، وفي المسجد تحاياه، وفي الساحة معشوقها…يتدثر تواضعه الحلو ويحاور، وعلى باب دكانة الشيخ يتابع شغفه في المناورة العميقة في شتى شؤون الحياة بثقافة راجحة مع عناد ودعابة وحزم ومن ثم لين…!
وعلى إيقاع ” طقطقات ” الحطب كنّا نعيشه، الكرسيّ شبه الثابت قرب باب رزقه الفضيّ يملأ أمانه مع ” جريدة” البارحة على الأعمّ الأغلب، والدفتر بيده قد اخشوشن من تدوين ما في الطحين والعجين، ورائحة الخبز الشهيّ تناغي الوافد إليه، فالغني والفقير في الفرن لديه سيّان، وبعض من وميض منقوشته هائلة الشبع والتي كنتُ استلها منه بالمجان على إيقاع قهقهته وتنمّره النظيف: ( تاع يا دكتور…انت موظف وصرت فقير أعطووه ياها ببليش…” مع كوب من الشاي أخطر من ثقل أرَق شاي المختار نفسه…”.
بلى. جلّنا كان يمرّ من هناك في الصباح والمساء…وجلّنا يعرف صاحب الصوت هذا…صغيرنا والكبير .
وفي دائرة ذاك المكان كانت زينة ليالي القدر ملاذ كرمه، وبسملة عاشوراء وخبزها الأصفر المحلى بعض ارتواء الدمع فيه..
هناك! وهنا كان الحاج أحمد عاشورائيا كربلائيا مجاهدا بحقّ، وكان الحاج أبو أمين عظيمًا بحقّ! مُذ غاب غبْنا، وغاب بعض الحبّ، والكثير من الحديث الشائق…مذ غاب ذلك التاريخ القديم، الحديث، الودود، غبنا عن مواساة الضحكة ومناجاة رغيف الخبز الذي ما زلنا نقلّب سخونته، ولكن! من دون الحاج أبو أمين…واحد من أجمل وأجلّ حكايات بلدتنا…! صديقك محمّد حمّود.