محمد أ. الحسيني
أثار نشيد “سلام يا مهدي” العديد من الآراء والمواقف، وألزم مراكز التفكير والدراسات، ولا سيّما في الغرب، بالتوقّف عند هذه الظاهرة وتحليلها والبحث في المكامن التي جعلته ينتشر بلغات مختلفة وفي بلدان كثيرة يتواجد فيها المسلمون الشيعة على وجه الخصوص. ولا يختلف انتشار هذا النشيد في الشكل عن انتشار أسطوانات المشاهير في أنحاء العالم، أو انتشار الأناشيد الدينية المسيحية منها أو البوذية التي تعظّم الخالق والأنبياء أو تنشد السلام والمحبة في الكون. ولكن الضجّة التي أثيرت حول هذا النشيد تمحورت حول شخصية الإمام المهدي(عج) الذي تتوجّه إليه كلمات النشيد، ومشاركة الأطفال، بما تعني هذه المشاركة من بُعد إنشائي ـ تربوي ديني واجتماعي، والتأثر الذي أبداه المشاركون، على اختلاف أعمارهم، بما يعني من تعلّق عاطفي ذي خلفية دينية عقائدية.
المهدي وفكرة المخلّص
لا يتّسع المجال هنا للبحث في فكرة المخلّص، فالغالب أن كل الأديان السماوية تؤمن بفكرة المخلّص الذي يأتي في زمن ما، ويخلّص البشرية من الفساد والظلم وينشر السلام والعدل في الأرض في نظام كوني واحد يمنح فيه العدالة للبشر. وهذه عقيدة ثابتة ومسلّمة ليس فقط في العقيدة الإسلامية بل أيضاً لدى اليهودية (المسيّا) والمسيحيّة (المسيح) والزرادشتية (سوشيانت)، وغيرها من المذاهب والأديان وحتى الوضعية منها.
وهذا المخلّص حي غائب (كما عند الشيعة) أو سيولد (كما عند السنّة) أو سيأتي في رجعة ثانية (كما عند النصارى)، أو سيكون من نسل داوود إسرائيل (كما عند اليهود)، إلا أن الفكر الشيعي يمتاز عن غيره من المعتقدات بأنه يبرز مواصفات وعلامات هذا المخلّص، وهو الإمام الثاني عشر محمد المهدي المنتظر الموعود صاحب العصر الزمان، وغيرها من الصفات التي تكرّس فيه صفات الصالح المؤهل لتحقيق المهمّة الكونية.
ومع وجود اختلاف في التسمية والتشخيص والتبعية، بحسب المباني العقدية لكل دين، إلا أن الأديان كلّها تجمع على الفكرة نفسها، وتتحدّث عنها في كتبها المقدّسة، بما يجعلها وعداً إلهياً بالدرجة الأولى، واعتقاداً فطرياً إنسانياً بالدرجة الثانية، يحتّم وجود أو ظهور هذا المخلّص، ولم تبقَ هذه المعتقدات طيّ الكتب أو أماكن العبادة بل برزت في الانتاجات الإعلامية من محطات وبرامج وأفلام سينمائية ركّزت كلّها على وجود محور إلهي يتجسّد في شخص أرضي يحمل معه البركة والخير وبشارات السلام الأبدي للكون كلّه.
فلسفة البكاء
برزت في نشيد “سلام يا مهدي” أيضاً مشاهد التأثر والبكاء لدى الكثير من المشاركين في مختلف البلدان التي أقيم فيها هذا النشيد؛ والبكاء لغة عاطفية يشترك فيها كل البشر وتتحدّث بها الخليقة جمعاء دون الحاجة إلى ترجمة، وهي تختزن الكثير من المعاني والرسائل، فمنها ما يعبّر عن الحزن والألم أو عن الفرح والسرور، ومنها ما يعبّر عن الاستسلام والخضوع، أو الأمل والرجاء بما يعبّر عن مكنون علائقي يتوجّه فيه الباكي إلى الطرف الآخر ليظهر له مشاعره المكنونة من خلال مظهر الدمع المتدفّق، وقد يكون هذا الطرف شخصاً أو فكرة أو إيماناً بعقيدة سماوية (تجاه الخالق) أو غير سماوية.
فالبكاء إذًا لا حصر له على مستوى المعنى، فهو عملية سيكولوجية تلقائية تعبّر عن المكنونات النفسية للفرد أو الجماعة، لتبعث برسالة، خاصة أو عامة، تفيد بوجود علاقة ما بين الباكي والمبكي منه أو عليه، ولا فرق أو فصل هنا في انتماء الباكي، فالبكاء حالة إنسانية بحتة، ومجرّدة من التصنيف الديني أو العقائدي أو الاجتماعي وغير ذلك، ولا يتمظهر تصنيفها إلا وفق السبب الذي يتأتّى منه البكاء والقضية المتعلّقة به.
البكاء من الحسين(ع) إلى المهدي(عج)
لم يذكر التاريخ أو الكتب السماوية أي شخص غير الإمام الحسين (ع) أنه ذُبح عند نهر الفرات، وأن الذي سيأخذ بثأره سليله من ولده هو الإمام المهدي (عج)؛ ولن يجد الباحث أي صعوبة في اكتشاف هذه الحقيقة الواردة في بطون الكتب عند اليهود والنصارى والمسلمين على حد سواء، لكن الشيعة عموماً اختصّوا بإحياء ذكرى استشهاده في واقعة كربلاء منذ أن حصلت في العاشر من محرّم عام 61 ه / العاشر من أيلول عام 680 م، ويحيون هذه المناسبة بالبكاء وإقامة مجالس العزاء، حتى ليخال المرء وكأن صاحب العزاء قد مات اليوم وليس من مئات السنين، وسيستمر هذا الإحياء حتى ظهور المهدي المنتظر(عج).
إن أي مشاعر للحزن تنطفئ تدريجياً مع مرور الوقت، ولكن ما الذي يجعل المسلمين الشيعة يستحضرون البكاء كل عام في ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)؟! هل هو فقط الحزن والألم على رجل مات منذ 1342 عاماً؟! هل يمتّ هذا الرجل بصلة قرابة لكل المسلمين الشيعة حتى يبكوه بهذه الطريقة في كل أنحاء العالم، ويجعلوا له زيارات مليونية إلى مرقده كل عام؟! بالطبع لا، فإن البكاء هنا موقف رفض، ورسالة ديمومة لقضية سامية تتّصل ببكاء الجموع في نشيد “سلام يا مهدي”، وهنا تتحقّق الصلة بين دموع الحزن ورفض الظلم على الحسين (ع) ودموع الشوق والرجاء والأمل بظهور المهدي (عج)، الذي سيعيد تقويم التاريخ ويعيد للحق نصابه بالقضاء على منظومة الظلم، التي أمعنت في القتل والفساد في العالم منذ واقعة كربلاء وحتى اليوم.
محورية القطب ودائرة المحور
تشكّل واقعة كربلاء، كما ظهور المخلّص، محور القضية المركزية للإنسانية جمعاء وليس للمسلمين والشيعة فقط. ولا ينكر أحد مشروعية هذه القضية المتّصلة، سواء في الموت في سبيل الإصلاح وإحياء الحق، أو في إزالة الظلم وإقامة العدل والعدالة، وليس هناك من أتباع الديانات كلّها من ينكر هذه المشروعية في هويّتها ومضمونها وأهدافها، وكذلك في الإقرار بأشخاصها، فلطالما كان الحسين (ع) محور شهادة ونموذجاً لثورة الحق على الباطل لدى الباحثين في الشرق والغرب، كما أن فكرة المخلّص ـ التي يجسّدها المهدي (عج) عند المسلمين ـ تشكّل بدورها محور التقاء جامع لدى أتباع الأديان كلّها، ومن هنا يكتسب نشيد “سلام يا مهدي” أهميته في بروز الاستقطاب والإجماع ـ الشيعي خصوصاً ـ على محورية القضية كنقطة جاذبة من جهة، وتطوّر هذه القضية إلى إحياء عمّ معظم أنحاء العالم من جهة ثانية.
وهكذا تصبح القضية شاملة ومتّسعة في محور كبير، بحيث تحوّل القطب من مرتكز تدور حوله القضية إلى قضية كبرى ينضم إلى محورها كل من يؤمن بحتمية القيام لفرض الإصلاح والتغيير، وليس هناك من قطب فعّال غير الامام المهدي (عج) ليكون جوهر المحور الذي يجمع حوله قوى الممانعة كما هو حاصل اليوم في معادلة محور المقاومة، ولذلك يستشعر الغرب و”إسرائيل” هذا الخطر حين يرى الدموع تنهمر لذكر المهدي (عج)، فـ “سلام يا مهدي” ليس مجرّد نشيد أو عمل فني، بل هو إنذار جدّي بقرب ظهور الحق وزهوق الباطل وإسقاط منظومة الظلم والفساد في العالم.