لمصلحة من إسقاط التدقيق الجنائي؟

فاطمة سلامة / العهد

حين عقدت حكومة الرئيس حسان دياب اتفاقها مع شركة “الفاريز اند مارسل” لإجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، قيل يومها إنّ الدولة اللبنانية تخطو أولى خطواتها نحو كشف منابع الفساد. هناك في مصرف لبنان -حيث رأس المشكلة- تركن ملفات وسجلات وحسابات إن قدّر كشف أرقامها وتحليلها ستكشف اللثام عن أكبر أسباب المشكلات المالية والنقدية التي نعيشها اليوم. فما حصل مؤخراً على الساحة النقدية والمالية لا يحتّم فقط إجراء تدقيق جنائي لمعرفة المتورطين به، بل يحتّم وعلى وجه السرعة محاسبة كل مسؤول مباشر وغير مباشر عنه. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يقع على رأس أولئك المسؤولين. الهندسات المالية والسياسة النقدية المريبة التي يتبعها منذ سنوات والتي أوصلت البلد الى ما نحن عليه اليوم تستدعي محاسبة فورية لإنصاف المواطن اللبناني. 

ولا يخفى أنه حين عقد الاتفاق مع الشركة المذكورة اسودّت وجوه متورطين خوفاً من المساءلة المحتومة، وعقدت النوايا لتطيير هذا التدقيق بأي نتيجة، فكان حجب المستندات اللازمة عن الشركة تحت ذرائع قانونية واهية. نعم، فعلها حاكم مصرف لبنان وأطاح بالتدقيق الجنائي متسلحاً بغطاء سياسي وبحصانة أميركية تشكّل أصل البلاء في لبنان. فعلها تحت ذريعة قانون النقد والتسليف وشماعة السرية المصرفية. رفض سلامة تزويد الشركة بالمستندات والمعلومات المطلوبة لعرقلة عملها. وبغض النظر عن إمكانية إعادة إحياء هذا التدقيق من عدمها، إلا أنّ أسئلة بديهية تُطرح على هامش ما حصل: لماذا الخوف من التدقيق الجنائي؟ ولمصلحة من إسقاطه؟ لماذا التذرع بالقانون الذي يؤكّد أنّ مصرف لبنان غير مشمول بالسرية المصرفية، فضلاً عن أنّ لبنان ينتسب الى مجموعة هيئات التحقيق الخاصة في العالم والتي تسقط كل الموانع بمان فيها السرية المصرفية فيما يتعلق بالتحقيق الجنائي المحاسبي المركّز؟.

بطيش: يخافون من التدقيق الجنائي على أنفسهم

الوزير السابق الدكتور منصور بطيش يستهل حديثه لموقع “العهد” الإخباري بالتأكيد أنّ إسقاط التدقيق الجنائي لمصلحة كل من لا يريده خوفا ًعلى مصالحه الشخصية ولصالح ما ارتكبته يداه. لا يريدون التدقيق الجنائي لأنهم يخافون على أنفسهم، فهذا التدقيق هو المدخل لتتكشف الحقائق في مصرف لبنان وبعده في وزارة المالية وكافة المؤسسات العامة. ما أهمية هذا النوع من التدقيق؟ يجيب بطيش على هذا السؤال بالإشارة الى أن هناك 54 مليار دولار تبخرت في مصرف لبنان من ودائع الناس. هذا المبلغ عدا عن الدين العام الحكومي البالغ 35 مليار دولار، و95 ألف مليار ليرة. وفق بطيش، فإن أول جريمة ارتكبتها الحكومات في التسعينيات أنها بدأت الاستدانة بالدولار رغم اعتراض بعض النواب آنذاك، فيما تكشفت الفجوة الكبيرة في مصرف لبنان والبالغة 54 مليار دولار وشكّلت السبب الأساسي لانقطاع دفع الحقوق للناس، حيث خسرت أكثر من نصف حقوقها.

 لمصلحة من إسقاط التدقيق الجنائي؟ 

لتعميم تجربة التدقيق الجنائي على كل مؤسسات الدولة 

ويشدّد بطيش على أهمية التدقيق الجنائي ابتداء من مصرف لبنان -وليس فقط في مصرف لبنان- في الكشف عن الحقيقة المتعلقة بأموال الناس. تلك الأموال المقدسة بغض النظر عن التذاكي على المواد القانونية. كما تكمن أهمية التدقيق في معرفة الوجهة التي ذهبت اليها أموال الناس، ومن استعملها. وهنا يشدد بطيش على ضرورة أن تعمّم تجربة التدقيق الجنائي على كل مؤسسات الدولة لمعرفة الحقيقة في مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة المالية، والاتصالات وغيرها. ويستغل بطيش الفرصة للإشارة الى أن حسابات الدولة المالية للحكومة -وبعد جهد جهيد- ذهبت الى ديوان المحاسبة بعد أن أنجزت التدقيقات الداخلية في وزارة المالية. أين أصبحت هذه الحسابات في ديوان المحاسبة؟ يسأل بطيش الذي يشدد على ضرورة معرفة وضع حسابات كل المؤسسات العامة التابعة للدولة والتي لا تخضع لا لرقيب ولا لحسيب لتتكشف كل الحقائق والفضائح، فهناك أكثر من 150 مليار دولار ديونًا على لبنان، فيما جرى إفقار الناس ولا يزال البعض يكابر ويمارس الإنكار. 

لا يجوز التلطي بالقانون

وحول الأسباب التي سيقت لرفض تسليم المستندات المطلوبة للشركة المخولة التدقيق، يقول بطيش: ” كل ما قيل عن سرية مصرفية وقوانين مانعة هو كذب بكذب ونفاق”. وفق بطيش فإن التدقيق الجنائي له اسم آخر هو التدقيق المحاسبي المركّز. ما الفرق من ناحية السرية المصرفية بين التدقيق المحاسبي السنوي العادي الدوري الروتيني والتدقيق المحاسبي المركز لناحية كشف السرية المصرفية؟ يسأل بطيش قائلاً: ” أي قانون يسمح لبعض الشركات بالقيام بتدقيق لحسابات مصرف لبنان وبعض المصارف، ويمنع شركة “الفاريز اند مارسل” من الدخول الى حسابات مصرف لبنان؟. لماذا يُسمح بالكشف عن السرية المصرفية لمدققي الحسابات الخارجيين ولا يسمح لشركات يعتمدها مجلس الوزراء؟ لماذا الازدواجية بالمعايير؟. وفق بطيش، اذا كان هناك جريمة علينا التحقيق مع المتورطين ومن ثم النظر الى المواد القانونية، فلا يجوز التلطي بالقانون وهذه ذريعة غير مقبولة إطلاقاً. 

شلهوب: التدقيق الجنائي يكشف عن الغموض والالتباس الموجود في الحسابات

مستشار رئيس حكومة تصريف الأعمال للشؤون المالية الدكتور جورج شلهوب يؤكّد لموقع “العهد” الإخباري أنّ هناك عدة أنواع للتدقيق على رأسها التدقيق الجنائي الذي تولته شركة “الفاريز اند مارسل”، ونوع آخر من التدقيق تولته شركة “أوليفر وايمن” ذات الاختصاص المتعلق بالمحاسبة في البنوك المركزية العالمية، والنوع الثالث يتعلق بالتدقيق المحاسبي العادي. وفق شلهوب، فإن التدقيق الجنائي هو أدق تدقيق بحيث لا يهتم فقط بالعملية الحسابية العادية كالجمع والطرح بل بمصدر الحسابات حيث يلاحقها بشكل دقيق، للكشف عن الغموض والالتباس الموجود في الحسابات، فيلاحق الشكوك على اختلافها، وهذا ما يعمل البعض على إسقاطه. 

 لمصلحة من إسقاط التدقيق الجنائي؟ 

لإيقاف التدقيق الجنائي تداعيات واسعة

يُفضّل شلهوب عدم الخوض في الجانب السياسي للقضية حيث من الواضح جداً من يستفيد من الغموض الموجود في مصرف لبنان، لكنه يشدد على أن التدقيق الجنائي هو شرط أول من شروط صندوق النقد الدولي فإيضاح الحسابات مقدمة لإنجاز الإصلاحات وقدوم المساعدات ان كان من صندوق النقد الدولي أو الأوروبيين. وفق شلهوب، فإنّ إيقاف التدقيق الجنائي له تداعيات واسعة على رأسها عدم وصول المساعدات للبنان الواقع في حالة دقيقة اقتصاديا ومالياً، اذ لا وقت لدينا لتضييعه، والمشكلة الأساسية أنه اذا لم يحصل التدقيق لن تحصل الاصلاحات ولن تأتي المساعدات من الخارج، ومن يدفع الثمن هو المواطن، فالبلد في حالة يرثى لها.