أحمد قصير.. أول المغامرين

ميساء مقدم / خاص العهد

شاء أحمد قصير، فكان له ما أراد. أدرك باكرًا سرّ العبور. حدد الهدف واتجه نحوه بجنون عاشق. كانت المقاومة شغفه. الخضوع لارادة المحتل لم ترد في قاموسه. أحمد الثائر الحق، في قسمات وجهه عنفوان الجنوب، وبأس البقاع. وجه أحمد، هو وجه أمّة تصنع التاريخ من عظيم التضحيات. من أحمد كانت الانطلاقة، وفي نهجه كانت كل الانتصارات.

عام 1981 عاد أحمد الى لبنان قادمًا من السعودية حيث كان يعمل مع والده. دير قانون النهر في جنوب لبنان كانت الموطن الجديد لشاب في الثامنة عشرة من العمر، يختزن في قلبه من فطرة الايمان ما مكّنه لاحقّا من صناعة المستقبل، وتحويل وجه الجنوب الى النصر الآتي. تردد أحمد الى مسجد القرية وانتمى الى النشاط الثقافي الديني في ذلك الوقت تحت مظلة كشافة التربية الوطنية، وكان الفوج الذي يضم قرابة 80 منتسبًا حينها بإدارة المحلل السياسي قاسم قصير.

أحمد قصير.. أول المغامرين

* الاجتياح الاسرائيلي وتحضير وجمع للسلاح

حزيران 1982 لم يكن في رزنامة أحمد تاريخًا عاديًا. أشعل الاجتياح الاسرائيلي للبنان في قلب الفتى العاملي الحرّ، بركانًا من غضبٍ لم يهدأ.  يقول عارفوه إن ردّة فعله على الاجتياح كانت قاسية جدًا، حد التهور والجنون. في تلك الفترة، كان الشهيد عبد المنعم قصير مرسال بشارة الى أحمد ورفاقه، فقد قدم من بيروت الى دير قانون في أكثر من زيارة، ليخبر عن بداية تشكيل حزب الله المقاوم للاحتلال.
لكن غيرة أحمد ورفاقه على الأرض والعرض، لم تكن لتنتظر. استغلوا الوقت بجمع السلاح، وتمكنوا من جمع أكثر من 20 قطعة كلاشينكوف قاموا بلفّها وطمرها في الارض.

* أحمد الثائر ضد التطبيع

نشاط أحمد قصير قبل عمليته الاستشهادية، لم يقتصر على العمل العسكري. لقد جمع في شخصه الوعي السياسي، والحماس الثوري، والاصرار والشجاعة والإباء والجرأة. ضد التطبيع و”اسرائيل” والعملاء، كان يهتف أحمد خلال احد الاحتفالات في النبطية. ولأن التطبيع يبدأ من الكلمة، كان لأحمد ورفاقة نشاط لافت خلال طريق عودتهم من النبطية الى دير قانون، فقاموا بإزالة لافتات فوسفورية وضعها الاحتلال وكتب عليها أسماء القرى باللغة العبرية الى جانب العربية. جمعوا على ذاك الطريق 40 لافتة وأخفوها في البيك اب. وكان ذلك، أوّل ارباك يحدثه أحمد “المشاغب” للاسرائيلي المحتل.

* أحمد ينقل السلاح

“أول عمل عسكري قام به هو عمل جنوني” يقول قائد في المقاومة رافق أحمد حتى غيابه الأخير. أراد المقاومون نقل سلاح تم جمعه من مخلفات المقاومة الفلسطينية من برج البراجنة في بيروت الى الجنوب (5 كلاشينات ـ 10 ألغام ميم. دال). تصدى أحمد حينها لنقلها، فاستعار سيارة “رينو 5” من ابن عمه، ونزل بها الى بيروت، وحمّل الاغراض في صندوق السيارة، وتحت المقعد، وفي غطاء المحرّك، ثم عبر بها مدججة بالأسلحة مخترقًا قرابة الخمسة حواجز، ثم كرر فعلته هذه مرّة ثانية.

* العملية الاستشهادية.. فكرة أحمد

أحمد قصير.. أول المغامرين
ملصق لعملية الشهيد أحمد قصير

كان أحمد يتردد الى صور للتبضع من الحسبة، ثم يعود الى دير قانون. وفي كل مرة كان يمر فيها بجانب “بناية عزمي” (مقر للاحتلال)، كان يعود لرفاقة ويعرض عليهم أن يفخخوا الـ”بيك آب” الذي بحوزته ليقوده ويفجّره في المبنى. أكثر من مرّة تحدث بالفكرة الى رفاقه، ثم انتقل الى الالحاح. وعندما رأى رفاق أحمد منه الاصرار والحماس، وامكانية التنفيذ، طُلِب اليه عدم البوح بالفكرة أمام أحد. ثم في عملية رصد أوليّ، ذهب الشهيد رضا حريري مع الشهيد أحمد قصير في البيك آب، وتفقدا المبنى بجانب الطريق. في ذلك الحين، كان تنفيذ العملية حلمًا كبيرًا في أذهان أحمد ورفاقه.

والى بيروت، انتقل الشهيد رضا حريري ليخبر أحد القادة الكبار في المقاومة الاسلامية بفكرة أحمد. ومعه، أخذ رضا بطاقة، رسم عليها المبنى المستهدف بتفاصيله المتقنة (كان رضا يدرس الديكور في مهنية صيدا). أكد رضا للقائد الجهادي أن الفكرة حاضرة، ومنفذ العملية جاهز، والسيارة موجودة أيضًا. وبعد تشاور القيادة، انتقل الأوّل الى دير قانون بعد ما يقارب العشرة أيام. وهناك، التقى بأحمد محاولًا التأكد من عزمه على تنفيذ العملية الاستشهادية الأولى. ثم تقصّد  الغياب عنه قرابة الـ12 يومًا لاختبار إصراره. في ذلك الوقت، كان أحمد يسأل الشهيد رضا يوميًا عن القائد الذي وعده بتنفيذ العملية.

أيام قليلة، وعاد القائد الكبير الى دير قانون. وكان اللقاء العملي هذه المرّة مع أحمد المبدع. نعم، لقد كان أحمد مبدعًا في كل شيء، فهو الذي خطط للعملية، وهو الذي رسم أيضًا رواية غيابه التي من المفترض ان تظهر لقوات الاحتلال، بعد تنفيذه العملية حتى لا يطال أهله بسوء. وفي الوقت عينه، كان سماحة الراحل الشيخ حسين كوراني قد تولى الاستحصال على الاجازة الشرعية للعملية الاستشهادية من الامام روح الله الخميني (قدس).

وكانت رواية أحمد تقضي بأن يشيع قبل تنفيذه للعملية، بأنه ذاهب الى بيروت لاحضار مبلغ من المال بقي لديه في ذمة أصحاب العمل في السعودية، وهم باتوا يسكنون في المنطقة الشرقية. وكان الخطف على الهوية سائدًا في ذلك الحين، ولذلك، كان سيعتقد الاهل والرفاق أن أحمد خُطف وفُقد أثره على الطريق.. وهذا ما كان.

طلب “الحاج” الى أحمد تصفية كل حساباته الدنيوية، وتحضير نفسه للغياب الكامل. أشاع أحمد بين أهله ورفاقه فكرة نزوله الى بيروت لاحضار المال. قبل خمسة أيام على العملية الاستشهادية التي هزّت كيان العدو، ودّع أمه واخوته، وذهب بلهفة نحو الغياب الدنيوي الاخير.

أحمد قصير.. أول المغامرين
..وملصق آخر باللغتين العربية والانكليزية

في طير دبا، جهّز “الحاج” شخصيًا الـ”بيجو” بألغام ميم. دال ومواد متفجرة وقرابة 350 كيلو تي ان تي، ووضع فتائل المواد المتفجرة بطريقة ضَمِن من خلالها تفجير كل المواد.

يروي أحد المرافقين له أن أحمد قضى آخر أيامه بين قراءة مفاتيح الجنان وتلاوة القرآن الكريم، وكان باستمرار يكرر السؤال عن موعد العملية. أكثر من مرّة قاما بالاستخارة على موعد العملية، ولم تكن الاشارة الايجابية تحضر، الى أن كان الموعد، وكانت نتيجة الاستخارة تومئ بالفعل.

ليلة العملية كانت مميزة بالمطر الكثيف حتى اضطر جنود الاحتلال الذين يقيمون مقابل مبنى عزمي في الخيم الى تركها واللجوء الى المبنى للاحتماء من المطر. لكن أحمد كان قد رسم لهم قدرًا آخر، بعيدًا عن الأمان الذي ينشدونه على أرض جنوبنا الحر.

صبيحة العملية، قاد أحمد سيارة “البيجو” من طير دبا نحو الهدف، وكانت سيارة المرافقين تسير خلفه، الى أن توقفت سيارة أحمد عند مفرق العباسية ـ صور في منطقة الحمادية، حيث تعطلت الفرامل. طلبا اليه المرافقان العودة الى طيردبا لاصلاح الفرامل، لكنه أصر على اكمال المهمة، إصرار المشتاق الى بلوغ الهدف. هناك ودّعاه، وبقيا في المكان حتى سمعا صوت الانفجار.

بقي سرّ اختفاء أحمد عبئا يحفر ألمًا في قلوب العارفين آنذاك. يقول أحدهم “ان السر يخنق”.

* الاعلان عن الاسم.. حوار بين السيد نصر الله ووالد الاستشهادي أحمد

أحمد قصير.. أول المغامرين

سنوات مرّت على اذلال أحمد أعتى جيوش العالم، دون أن يذكر اسمه بين الشهداء، بل بين المخطوفين على الهوية. لكن أوان الفجر أبى الا أن يظهر، لترفع دير قانون، وصور، والجنوب، وكل لبنان، رأسها ببطل فتيّ مهّد لعصر الهزيمة الاسرائيلية، فكان الانسحاب الاسرائيلي من المنطقة. وبعد زوال خطر الاحتلال عن أهل أحمد ومنطقته، كان القرار بالاعلان عن اسم المنفذ.

زار سماحة السيد حسن نصر الله على رأس وفد منزل الشهيد أحمد قصير في دير قانون. هناك، توجّه السيد نصر الله الى أهل الشهيد بالقول: “ان ابنكم هزّ الكيان وأحدث معادلة جديدة في الصراع مع العدو، وتضحيتكم أنتم لا نظير لها”. لكن المفاجأة كانت من والد أحمد، الذي أجاب بعينين دامعتين: “والله عندما أعلنوا عن العملية شعرت أنه هو، لكني حملت هذا السر مثلكم ولم أًحدث به حتى والدته، أنا لم أصدّق أن أحمد اختفى، لقد عرفت أن هذه العملية تحمل شجاعة أحمد، وقد قلت له في قلبي من اللحظة التي سمعت بها دويّ الانفجار “الله يرحم البطن اللي حملك””.