ما قبل “طوفان الاقصى” وما بعده

بغداد:عادل الجبوري

من الصعب جدًا التنبؤ مبكرًا بكل مآلات ونتائج معركة “طوفان الأقصى”، وهي لم تتعد بعد مرحلته أو مراحلها الأولى، ومن الصعب جدًا قراءة معطياتها بنفس السياقات والأطر والأدوات التي كانت تقرأ بها المعارك والمواجهات السابقة بين الفلسطينيين -أو العرب على وجه العموم- من جانب، والكيان الصهيوني من جانب آخر، وكذلك من الصعب جدًا القول إن كواليس السياسة في عواصم غربية وعربية واقليمية، ستشهد حسم معارك الميدان وفق منطق “لا رابح ولا خاسر”، وفّر خيار العودة إلى خطوط ما قبل السابع من تشرين الأول-اكتوبر 2023!

فمعركة “طوفان الاقصى” بدت مختلفة تمام الاختلاف عن سابقتها، من حيث التخطيط والتوقيت والتنفيذ، وسرعة وتيرتها وايقاعها، ودراماتيكية حراكها، وجغرافية ميادينها. فما حصل للكيان الصهيوني هذه المرة في ظرف ساعات أو أيام قلائل، لم يكن مسبوقًا منذ تأسيس ذلك الكيان قبل أكثر من خمسة وسبعين عامًا. مئات القتلى والأسرى بينهم عشرات الجنود وكبار الضباط والقادة، وآلاف الناس يتركون بيوتهم وأملاكهم في المستوطنات ويهيمون على وجوههم في العراء، وساسة “تل ابيب” وصناع القرار لا يعرفون ماذا يفعلون وهم يقفون عاجزين أمام سيل صواريخ المقاومة، ورجالها الذين باتوا يصولون ويجولون في كل مكان، حتى بات الحديث في وسائل الاعلام والشارع الاسرائيلي، عن “كمّ من الوقت تحتاج المقاومة الفلسطينية لتصل الى عاصمة الكيان ومدنه الاستراتيجية الاخرى في العمق؟”.         

فالهزة أو الهزات العنيفة التي تعرض لها الكيان الصهيوني بوقت قياسي وبصورة مفاجئة، وطبيعة ردود افعاله المضطربة وغير المدروسة بعناية، أشرت وتؤشر إلى أن الأمور تسير بالعكس تمامًا من حسابات ومصالح وأجندات “تل ابيب”، وبالتالي فإن تغير المعادلات واختلال التوازنات يعني الشيء الكثير والكبير والخطير، وحينما تتضح وتتبلور وتتجلى كل معالم وملامح وخطوط صورة المشهد العام، يكون قد تبين للجميع حجم ذلك التغير والاختلال.     

ولعل هنالك جملة حقائق ومعطيات ودلائل تؤشر الى ذلك، وهي مهمة للغاية لمن يريد قراءة الوقائع والتفاعلات والاحداث بطريقة عميقة وهادئة وموضوعية، ومن بين تلك الحقائق والمعطيات والدلائل:

*ان ارادة الشعب الفلسطيني المقاوم، بدلًا من أن تضعف وتتراجع مع مرور الزمن، ومع اتساع مساحات الدعم والاسناد الدولي والاقليمي للكيان الصهيوني، فإنها ترسخت وتعززت وتجذرت إلى حد كبير، رغم القمع المتواصل دون انقطاع الذي انتهجه الكيان الغاصب في كل المراحل، ضد أبناء الشعب الفلسطيني بكل قواه وتياراته وحركاته ومكوناته.   

*في ذات الوقت، أظهرت معركة “طوفان الاقصى” حقيقة أن ذلك الكيان المحتل، يعيش أقصى درجات الضعف والخواء السياسي والأمني والمجتمعي في داخله. ولعل الماكينات الاعلامية والدعائية الغربية صورته طيلة عقود من الزمن على غير حقيقته. وإلا كيف يعقل أن يتعرض الى كل ذلك الانكسار والخذلان من الفلسطينيين الذين لا يمكن مقارنة امكانياتهم البسيطة -وفق الحسابات المادية المنظورة- بالامكانيات والقدرات الهائلة للكيان الصهيوني؟

*عبثية وعدم جدوى كل مشاريع التطبيع المذل، بدءًا من اتفاقيات كامب ديفيد بين النظام المصري والكيان الصهيوني في عام 1978، مرورًا باتفاقيات وادي عربة بين النظام الاردني وذلك الكيان في عام 1994، ومن ثم اتفاقيات اوسلو ومدريد وواي ريفر وغيرها، وصولًا الى ما سمي بـاتفاقيات السلام الابراهيمي بين عدد من الأنظمة العربية وتل ابيب في عام 2021.

فكل الجهود والمساعي المحمومة التي بذلت على مدى نصف قرن تقريبًا، من أجل ادماج الكيان الصهيوني في محيطه الاقليمي، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وصلت الى طريق مسدود، حيث إن الأنظمة السياسية الحاكمة، كانت وما زالت في واد والشعوب العربية والاسلامية في واد آخر، ومواقف اليوم خير شاهد وبرهان ودليل.

*عجز وتخبط الولايات المتحدة الاميركية، ومعها قوى غربية اخرى، عن حماية الكيان الصهيوني والدفاع عنه، ناهيك عن حماية وضمان مصالحها ووجودها في المنطقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تحرص الادارة الاميركية على منع الكيان الصهيوني من الذهاب بعيدًا في تصعيد معركته الحالية مع حركة “حماس”، ادراكًا وتقديرًا منها -اي من الادارة الاميركية- بأن أي تصعيد يمكن أن يؤزم الأمور بدرجة أكبر ويزيد الطين بلّه، ويجعل زمام المبادرة بيد محور المقاومة ككل.

*اذا كانت كل مشاريع التطبيع قد باءت بالفشل الذريع، فمن الطبيعي والمنطقي انه بعد الانكسارات والهزائم المهينة الأخيرة للكيان الصهيوني، أن تنتهي مشاريعه ومخططاته وأجنداته الأخرى الى نفس المصير. ويخطئ كثيرًا من يعتقد أن واحدًا من مخرجات معركة “طوفان الاقصى”، سوف تتمثل بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة الى مصر والأردن ودول اخرى.

*لن يتوقف قطار التطبيع لبعض الوقت، بل سيتوقف الى الابد، لأن معركة “طوفان الاقصى” قد عطلته تمامًا، والاكثر من ذلك، لا يستبعد أن تنفتح ابواب الجحيم على الكيان الصهيوني من نفس الدول التي طبعت انظمتها السياسية الحاكمة معه، سواء قبل خمسة وأربعين عامًا، أو قبل تسعة وعشرين عامًا، أو قبل عامين.                

*لن يستطيع حكام الكيان الغاصب، ترميم جبهاتهم الداخلية ومنع حدوث المزيد من التصدعات والهزات والزلازل الداخلية بعد كارثة “طوفان الاقصى”، ولن تفضي معركتهم مع حماس التي اسموها “السيوف الحديدية”، فيما لو دامت وقتًا أطول إلا الى الاقتراب من حقيقة أو خيار انهيار وتفكك الكيان بالكامل. وهذا ما يتحدث عنه، ويحذر منه، ويعترف به ساسة كبار وجنرالات واكاديميون واعلاميون. ولمن يريد التأكد ما عليه سوى أن يبحث ويطلع على ما تكتبه حاليا كبريات الصحف الصهيونية، وما تقوله ابرز القنوات الفضائية، وما يطرحه الساسة والجنرالات الصهاينة في كواليسهم ومحافلهم الخاصة، وما يتداوله الناس في شوارع تل ابيب والمدن والمستوطنات المختلفة، وهم يعيشون تحت رحمة صواريخ المقاومة التي باتت تصلهم من كل الجهات والجبهات.