شارل ابي نادر
في متابعة لمسار صفقات الأسلحة النوعية بين الدول حول العالم، فإن سوق هذه الصفقات كان وما زال ناشطًا بقوة وبشكل دائم، ولم يتوقف أو يتراجع مستواه أبدًا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، وحتى بعد أن انتهت الحرب الباردة وخفت وتيرة مستوى سباق التسلح بشكل لافت، وغابت الحاجة “العسكرية” أو الدافع الدفاعي لهذه الأسلحة، فقد بقيت حركة هذه الصفقات على نفس الوتيرة تقريبًا، وعلى وتيرة أعلى أحيانًا، وذلك على خلفيات تجارية أو سياسية.
وفي متابعة أيضًا لموقع ونفوذ الدول التي تمتلك (تصنيعًا أو شراءً) قدرات عسكرية استثنائية ذات طابع استراتيجي مثل الغواصات النووية، كانت هذه الدول في أغلب الأحيان، تنتمي فقط إلى طائفة الدول الكبرى أو ذات الموقع الدولي المتقدم، ولكن أن تحصل اليوم دولة “عادية” مثل استراليا على عدة غواصات نووية – على الأقل ٣ حتى الآن – وبقدرات فوق العادة، فهو أمر لافت وحساس، من المفيد الاضاءة عليه، أولًا لما يحمله من أبعاد استثنائية، وثانيًا لكونه أمرًا غير عادي ولن يمر بسهولة على مستوى الاشتباك الإستراتيجي الذي يعيشه العالم اليوم.
في البعد الجغرافي: تشكل استراليا بجغرافيتها الواسعة والبعيدة شرقًا، نقطة ارتكاز استثنائية على الصعيد البحري الدولي، فهي تعتبر القطب الجغرافي الثالث الواقع جنوب غرب المحيط الهادىء لمثلث الاشتباك البحري الإستراتيجي في المحيط المذكور، بعد القطب الأول في شمال غرب المحيط الهادي بين اليابان والكوريتين، والذي تسيطر عليه واشنطن من خلال سلسلة من القواعد العسكرية البحرية والبرية في اليابان وبحرها وفي كوريا الجنوبية وسواحلها وفي جزيرة غوام، وبعد القطب الثاني في بحر الصين الجنوبي، والذي تسعى الصين جاهدة للسيطرة عليه وبسط نفوذها البحري عليه، حيث يتشكل اليوم بين واشنطن وبكين وفي هذا البحر (الصين الجنوبي) أحد أخطر خطوط المواجهة البحرية في العالم.
في البعد العسكري: مع الغواصات النووية التي أصبحت تمتلكها استراليا اليوم، والتي تضاف أهميتها الى الموقع الحساس للأخيرة في مسرح الاشتباك الإستراتيجي الدولي حاليا، يمكن تلمس خطورة الموقع الذي أوجدت نفسها فيه استراليا، خاصة أن إدارة وقيادة هذه الغواصات لن تكون إلا باشراف شبه مباشر من البحرية الأميركية وتحديدًا من قبل قيادة الأسطول البحري الأميركي للمحيط الهادىء، كون منطقة نفوذ هذه الغواصات وامكانياتها فوق العادية، تدخل في صلب أهداف ومناورة العمليات البحرية الاستراتيجية الاميركية في تلك المنطق.
من ناحية العلاقات الدولية، ومن ضمن تحالف أوكوس، (مع بريطانيا واميركا)، تنخرط اليوم استراليا في اشتباك غير عادي وغير منتظر عنوانه الفعلي “استهداف الصين”، تدفعها إليه واشنطن في ظل توتر دولي مرتفع المستوى والحدة، وقد أعرب أغلب المواطنين والساسة في أستراليا عن رفضهم لهذا الموقع الخطر والذي تتجه اليه كانبرا، حيث قال الصحافي الأوسترالي المعروف ستيفاني دوريك، في مقال لافت بمضمونه وبتوقيته إن “”حتمية الحرب” مع شريكنا التجاري الرئيسي، الصين، هو أمر تغذيه الدعاية التي تقودها الولايات المتحدة، وهذا يصبّ في مصلحة واشنطن، وليس في مصلحة استراليا”. فيمكن القول إن الأخيرة، وبعد حصولها على هذه الغواصات النووية، هي على موعد مع تغيير جذري لمسار طويل من الهدوء والاستقرار، ليصبح مسارًا غير هادئٍ وغير آمنٍ.
وعلى المقلب الآخر، تنظر بكين ومن ورائها موسكو بحذر شديد إلى هذا التغيير المفصلي في قواعد الاشتباك البحرية الجديدة، والتي تدفع واشنطن العالمَ وشرقَ آسيا اليها بقوة غير آبهة بحساسيتها وبخطورتها، وفي الوقت الذي يحاول فيه الرئيس الأميركي جو بايدن استغباء أو خداع العالم بقوله إن هذه الغواصات سوف تؤمن مستوى أعلى من الاستقرار الدولي ومن السلام والأمن، يرى الجميع من الذين يفهمون جيدًا استراتيجية واشنطن في زعزعة استقرار العالم، وخاصة روسيا والصين وايران وكوريا الشمالية، أن العالم يتجه نحو مواجهة غير مسبوقة في شرق آسيا وفي شمال غرب المحيط الهادي وفي بحر الصين الجنوبي، بمستوى أعلى وأكثر خطورة من المواجهة الدائرة حاليًا في أوكرانيا بين روسيا وبين واشنطن وحلفائها، وحتى لو بقيت بعيدة عن أن تكون مباشرة بين بكين وبين واشنطن، حيث خطورة هذه الأخيرة أنها ستكون مدمرة للجميع، وستكون حتمًا بطريقة مباشرة بين أغلب دول شرق آسيا (الصين وتايوان واليابان والكوريتين)، الأمر الذي ستجد فيه واشنطن الحل الوحيد لتقويض اندفاعة الصين الاقتصادية والسياسية على المسرح الدولي.