المرحوم عماد قعيق ( 11 / 6 / 1974 – 9/ 10 /2007 )
منا من يتمنى “الا ليت الشباب يعود يوما”. ومنا من يسأل, عسى شباب تعود الينا يوما من تحت التراب… سؤالان معجزة, وقد يكون الأغرب انتظار تحقيق المستحيل.
فلما السؤال ان كان الجواب أوضح؟ فلا تمني يُعوض ما ذهب, ولا تساؤل يروي قلوبا استسلمت لوجع الرحيل.
وعماد, لحن حزن عزفته عذابات الدنيا فبات, قصة على ورق, ولا شيء منه اليوم سوى صورة, إن تنظر اليها تسمع لحن القصة, وتغرق بين أشكال الدموع, فتحار هل تبتسم مع ابتسامة فمه؟ أم تبكي مع كلام عينيه؟ أم تفتش في نقوش القبر عن عمره وتأسف على روحه قبل روحك, وترى كم ان الموت قريب لا يجامل شخصا ما زال يدعوه الناس عريسا, ولم يراع أن هذا الذي سلب روحه لم تكتمل لديه فرحة الأبوة بعد.
فعماد المولود في 11 حزيران 1974 كغيره من أبناء الضيعة الكثر تربى في عائلة محبة, متواضعة, سخية بعواطفها, كبيرة بقلبها كما بأبنائها, هذه العائلة التي تربى في ظلها مؤلفة من أم وأب, سبعة شباب وبنتان.
عدد أفراد الأسرة وحده يصور العبء الاقتصادي الكبير, فأبوه لم يكن ميسور الحال ليؤمن الرفاهية لأولاده.هذا ما جعل عماد يحاول العمل جاهدا ويضع نصب عينيه العلم والعمل من أجل أن لا يحرم أولاده من حاجة ثانوية كانت أو أساسية.
لم تمنعه هذه الحياة عن كسب أفضل الصفات, وهي صفات يعجز الوصف عن وصفه بها, بكرم أخلاقة الكبير, وكرم يده, مضيافا الى أبعد الحدود, وصريحا الى أكبر الدرجات, لم يكن من الأشخاص الذين يهتمون للمظاهر أو الأمور السطحية بل انسانا عميقا بذاته, يسرح مع هدوء الليل نحو البعيد, يجامل الجمال الالهي بسكون القمر, ويرى في سهر الليل المكان الأفضل للراحة بعد يوم عمل طويل.
بعد نشأته بدأت رحلته الواعدة مع العلم, بحر لم يكف يوما عن الإبحار فيه والغوص في أعماقه.بداية, تلقى علومه الابتدائية في مدرسة مارالياس في بيروت ثم انتقل منها الى مدرسة الليسيه الغول حتى “البريفيه”, وبعدها انتقل الى مركز بيروت التعليمي ونال فيها شهادة البكالوريا الفنية, ومن ثم تخصص في العلوم التجارية..
في حوزة عماد العديد من الشهادات وهي:
شهادة في اختصاص محاسب عام من مركز بيروت للتعليم المهني والتي اعطيت له بتاريخ 30-6-1991. وقد عمل بهذه الشهادة في دبي.
حائز على شهادة في اللياقة البدنية في دبي.
حائز على شهادة من معهد النجاح الثقافي من دبي في دورة كمبيوتر بتقدير جيد جدا
وذلك بتاريخ 16-3-1998.
شهادة في تطوير لغته الانكليزية من المعهد البريطاني في دبي.
وهو من الأشخاص المتفائلين الذين يحبون الحياة ويعملون بكل نشاط وثقة من أجل بناء المستقبل, فيعمل بدوامين اي يكن العمل لم يتعيب به يوما ما دام يؤمن له لقمة عيش شريفة, فعمل في تركيب الأدوات الصحية, وكان يوزع جريدة الوسيط بعد الدوام, عمل في مكان لبيع الألبسة, إضافة الى العديد من الأعمال الأخرى..ويلتحق بدورة هنا وهناك لتبقى زاده في الحياة, وليبقى الرصيد الذي يقوي به معدن شخصيته, فلم يزده العلم سوى قوة, وحضور لا يمكن لاحد ان ينكره.
إلتحق بالجيش اللبناني لأداء خدمة العلم عام 1994.
كان عماد متما لواجباته الدينية من الصلاة وصيام, في أواخر أيامه وهو يتلقى العلاج في المشفى أخبر زوجته أنه إن خرج سالما سيحج الى بيت الله, الا انه توفي قبل ذلك, وقام أخوته بتولي الأمر فحجوا له. أما حكاية كرمه لم تكن فقط مع عائلته, فقد كان عاشقا لفعل الخير, محبا لمساعدة الفقراء, خدوما في ان يلبي طلبات من يقصده.اهتم كثيرا بحضور المجالس الحسينية وقام بواجبه بدافع من حبه الحسيني بمد يد المساعدة لاتمامها.
أفضل هواياته كرة القدم, والسباحة كان البحر أحب مكان اليه يقصده في يوم صيفي حار.
سافر الى الامارات عام 1998 للعمل الا ان ذلك لم يمنعه أن يكمل ما بدأ به بشأن الدراسة فقام بعدة دورات في اللغة الانكليزية والكمبيوتر.
عاد الى لبنان في العام 2000 بعد سنوات في بلاد الاغتراب عاد الى ربوع الوطن يبحث عن شريكة أحلامه وعن أمل الاستقرار وتكوين اسرة.
التقى زوجته ألحان شعلان التي يوجد بينه وبينها قرابة من جهة الأب. وتزوجا في2001 ثم سافرا الى دبي حيث عمل بشغف من أجل شراء شقة في العباسية والعودة الى لبنان نهائيا.
تقول ألحان ( زوجته ) بأنه أكثر الرجال اقناعا, بكل الصفات الرائعة التي لم تتغير به من يوم أن عرفته وحتى وفاته, بصراحته, وقوة شخصيته التي تفرض نفسها باحترام كبير على من يتحدث اليهم, صريح وصادق, حنون الى درجة لا توصف, تهمه العائلة ومحافظ بالدرجة الأولى على الروابط العائلية.
أنجبت الى حياته ولدان كانا الأمل الواعد “أحمد ودانيال” كان يرى عماد فيهما أحلاما
لا تعد ولا تحصى, كان يعودهما على الحرية في اتخاذ القرارات الصائبة.
ويعمل دائما على تأمين كافة احتياجاتهما, حريصا جدا على تعليمهما. كما اصر على أن
ينشأ في جو عائلي مميز مليء بالعاطفة والحنان, لعله أراد أن يعوض لطفلان هما
اليوم في حكم الأيتام, وهو الذي كان يمثل لهما ابتسامة الدنيا وربيعها,حلم المستقبل وآفاق اللانهاية. هما اليوم إذ افتقداه كيف عساهما يفهمان فكرة الموت ذاك المجهول الغامض الذي لم تستوعبه عقول الكبار لتستوعبه عقول الاطفال.
حملت ألحان بالطفل الأول أحمد والذي أبصر النور في دبي, مما جعلهما يشعران بمسؤولية, الا أن الفرحة بالمولود الجديد أنستهما كل عبء.
عادوا الى لبنان بعد سنتين. وبعد ثلاث سنوات رزقهما الله ولدا آخر يدعى دانيال وعلى وجهه دخل الرزق الى بيتهم, فأتموا دفع أجزاء كبيرة من أقساط الشقة, واشتروا سيارة, وبدأت تنفرج أحوالهم بنعم الله.
حتى العام 2007 وهو العام الأخير من حياته. في بداية المرض كان يشعر بوجع كبير, ألا أنه كان ينشغل عن الاهتمام بصحته, ورؤية طبيب فيؤجل الأمر دوما. حتى وصل المرض الى مرحلة متقدمة فأمر له الطبيب بعملية فورية وأخبره أنه يعاني التهابات مزمنة وعليه أخذ العلاج في المستشفى, شك بالامر. أخبر الطبيب زوجته التي كانت وحدها في المستشفى. للحظة شعرت كأنها ستنهار ولم تعرف ما الذي أعادها الى صوابها حتى تعود الى غرفة زوجها, وتقنعه بأنه سيكون على خير ما يرام, وهو أكثر الموقنين بها أنها لا تعرف كيف تكذب. فبعد خروجه من المستشفى سحب الفحوصات التي خضع لها دون علمها, وعرضها على طبيب آخر فعرف الحقيقة. ومع أنه يعرف أن هذا المرض لا يمكن ان تكون نهايته سعيدة لانه خبيث بما فيه الكفاية لينهي عمره, أصر على الحياة ورغب أن يكمل طريقه كما كان والى جانب عائلته, فلم يخبر زوجته أنه عرف بالأمر.
الا ان العلاج الكيميائي كان قويا جدا فأثر على بصره مما أفقده إياه, وعرف أن النهاية قربت. حزن عماد حزنا شديدا عندما لم يستطع رؤية ابنه أحمد. ثم بدأ يصاب بجلطات دماغية التي كانت السبب بوفاته في 9 تشرين الاول 2007.و بذلك كان يوم صدمة آخر وخضة أخرى هزت كثيرين ممن لم يصدقوا الأمر فقضي القضاء, وانتهت أوجاعه عند الموت.
بدأ التحضير لمراسم الدفن, حضر أخوته جميعا الى لبنان من أجل توديع عماد يلبسون الأسود حدادا على فقيد الشباب. الا ان زوجته لم تجد سوى اللون الأبيض ما يناسب وداع حبيبها ذاك اليوم, وهي التي لم تشعر يوما أنه أفقدها شعورا رائعا بانها ما زالت عروسا جديدة. رشت عليه الأرز, وودعته بأرق الكلمات, وهي المقتنعة اليوم أنه مازال معها أينما ذهبت, تشعر بأنفاسه تلاحقها, تسمع صوت ضحكاته التي ما انقطعت في الدنيا, كلما اشتاقت رؤيته يزورها في مناماتها ويعايدها في عيد الأم.
تتمنى ألحان لو أنه عاش أكثر ليرى أولاده, وليكون الى جانبهم وهم يكبرون, وليرتاح من عبء الدنيا بعد أن فتحت له أبواب الفرج, الا انها عاكسته الى طريق المجهول وسرقته من أغلى أحبابه.
وها هي صرخات أمه الأليمة الصامتة تدوي في نفسها تغص بمرارة الوجع إن استذكرت ابنا حضنته في جوفها تسعة اشهر, وربته بحنان يفيض عن مشاعر الدنيا, ذاك الفتى الذي كان يجبرها على الضحك بمرحه ومزحه بات اليوم أسير التراب, وإن أتت على ذكره تشعر بأنه فارقها الآن الا أنها تراه كثيرا ما تراه في عيون أولاده تشمهم حنينا اليه. ذاك الفتى الذي دللته لتصنع منه رجلا تتفاخر به أمام الناس فارقها اليوم رغما عنه وفارق والده وأخوته دون سابق انذار.
والفرحة لم تكتمل فقد باتت الابتسامة عند قبره يتيمة تفتش عن روحها التي غاصت تحت التراب, وأن تبتسم لتلك الصورة أمر أشبه بالمستحيل فالدمعة ستسبق الابتسامة, مما سيقنعك أكثر, أن صورته هي الوحيدة القادرة على ان تبتسم في مجمع القبور هذا.