السراي الكبير ـ 9 تشرين الأول 2020
على بعد أيام قليلة من ذكرى انتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين الأول، ضد السياسات التي اعتمدت على مدى عشرات السنوات، وتسببت بهذا الانهيار الحاد الذي وصل إليه البلد على مختلف المستويات، المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، لا بد من وقفة أمام اللحظة الخطيرة التي يعيشها لبنان واللبنانيون، وبالتالي لا بد من جرس إنذار يوقظ ما بقي من وعي ومسؤولية وينهي حالة الدوران في الحلقة المفرغة.
إن المسؤولية الوطنية، تحتم على كل السياسيين، في أي موقع، وفي أي جهة، أن يرتقوا إلى مستوى القلق الذي يستوطن عقول وقلوب اللبنانيين، وأن يستشعروا بما تحبسه العيون من دموع يمتزج فيها الخوف بالحزن، وأن يتنبهوا إلى أن قدرة اللبنانيين على تحمل الألم، تترنح أمام اليوميات المعيشية والاجتماعية الضاغطة، وأن يحتسبوا جيدا صبر اللبنانيين الذي شارف على النفاذ، وأن انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 كانت جرس إنذار، بينما ستكون الانتفاضة المقبلة ثورة مكتملة العناصر والمكونات والأداء والمحاسبة.
إن لبنان يمر اليوم بمرحلة عصيبة، ويعيش اللبنانيون أياما صعبة، فالتجاذبات السياسية والحسابات الطائفية والمصالح الحزبية والفئوية والشخصية، كانت وما تزال تضع نفسها أولوية على مصير الوطن وهموم اللبنانيين الذين يدفعون اليوم ثمن هذه السياسات المستمرة منذ عشرات السنوات، والتي كانت مدخلاً للفساد الذي تحكّم بكل مفاصل الدولة.
بكل أسف، إن مفهوم الدولة في لبنان استنسابي، يخضع لتفسير متغير وفقا للحاجة وما تقتضيه المصالح، وليس هناك مفهوم ثابت يكرس فكرة الدولة القوية والعادلة والراعية لمصالح أبنائها جميعا، بمعزل عن انتماءاتهم.
ولذلك، فإن هذه التفاسير، أخضعت مقومات الدولة لمعايير تخدم الحسابات والمحسوبيات، فأصبح التوظيف مستنداً إلى حسابات ضيقة، وصارت مواصفات التعيينات في إدارات الدولة تعتمد شهادة الانتماء كأولوية، وتراجعت قيمة ومعايير شهادات الكفاءة والنزاهة والشفافية، وقد حاولنا جاهدين إجراء تغيير في هذا المسار ومنح الشباب اللبناني أملاً بمستقبل يصنعوه بأنفسهم.
كل ذلك أدى إلى هذا الواقع الذي حول إدارات الدولة إلى فيدراليات سياسية أو طائفية أو مذهبية أو حزبية أو شخصية، وهو ما نسج مظلات حماية لمنظومة الفساد ورعاية لقواعد الفاسدين، فأصبحت المحاسبة قائمة على قاعدة 6 و6 مكرّر التي شكلت على الدوام حاضنة قوية للفساد، وملاذا مريحا للفاسدين ومن يحميهم.
إن الوضع الذي وصل إليه الوطن يستدعي من الجميع وقفة ضمير، والترفع عن المكاسب الآنية، وتجاوز التجاذبات السياسية، وتقديم المصلحة الوطنية، وتقديم مصلحة الناس على المصالح الشخصية ولو لمرة واحدة، فالمخاطر وصلت إلى فقدان لقمة عيش الناس، ومصير الوطن مهدد، والشباب اللبناني يفتش عن فرصة الهجرة إلى أي مكان في العالم، بحثا عن الأمان والاستقرار الذي بدأنا نفقد آخر ملامحه في لبنان، وها هي مراكب هجرة الموت تعطي مؤشرا خطيرا عن مدى اليأس الذي أصاب اللبنانيين من واقعهم، ومن القدرة على التغيير الذي يؤمن لهم حداً أدنى من مقومات الحياة الكريمة.
وفوق كل ذلك، هناك من يسوق فكرة رفع الدعم عن الدواء والطحين والمواد الغذائية والمحروقات.
إن توجه مصرف لبنان لرفع الدعم، غير مقبول في الوقت الراهن، فالضغوط الاجتماعية والمعيشية قاسية على اللبنانيين، وقدراتهم الشرائية تآكلت بشكل حاد نتيجة الانهيار النقدي الناتج عن السياسات المالية السابقة التي استنزفت مقدّرات البلد وأفقرت اللبنانيين وتسببت بهذه الفجوات المالية الضخمة في مالية الدولة ومصرف لبنان وفي ودائع اللبنانيين.
لا أحد يزايد علينا في الحرص على احتياطي مصرف لبنان، فنحن من اتخذ القرار التاريخي بوقف سداد الدين، ولو دفعنا سندات اليوروبوند هذه السنة، والبالغة ما يقارب من 5 مليار دولار، لكان انخفض الاحتياطي من 22.5 مليار دولار الى 17.5 مليار دولار، ولكان المعيار الذي يتحدث عنه مصرف لبنان اليوم لرفع الدعم عن الأدوية والمواد الغذائية والطحين والمحروقات، قد تم تطبيقه منذ شهر آذار الماضي.
كما ان ما تم صرفه على استيراد الأدوية والمواد الغذائية والطحين والمحروقات، بلغ منذ بداية هذه السنة حتى اليوم، نحو 4 مليارات دولار، وقد يصل حتى نهاية العام الحالي إلى ما يوازي قيمة استحقاقات الدين لهذا العام الذي امتنعنا عن تسديده، فضلاً عن أن هذا المبلغ هو أقل من الفاتورة السنوية المعتادة التي كانت تبلغ نحو 7 مليار دولار.
إن أي خطوة من مصرف لبنان لرفع الدعم، يتحمل هو مسؤوليتها مع كل الذين يؤيدون أو يغطون هكذا قرار، لأنها ستؤدي إلى انفجار اجتماعي ستكون نتائجه كارثية، وبالتالي فإن الخسارة الناتجة عن استمرار الدعم هي أقل بكثير من الخسائر التي ستترتب على قرار غير موضوعي برفع الدعم. وحبذا لو كان مصرف لبنان قد تنبه إلى السياسات المالية التي أدت إلى ما وصل إليه البلد، واتخذ قراراً واحداً على مدى العقود الماضية لوقف المسار الانحداري، وتوقف عن دعم تمويل سياسات الحكومات المتعاقبة التي تسببت بهذا الانهيار المالي والاجتماعي والمعيشي.
وحبذا لو أوقف مصرف لبنان تمويل سياسات الهدر في الدولة من أموال المودعين التي كان يجب عليه حمايتها. وإذا لم يستطع مصرف لبنان في السابق مقاومة الضغوط السياسية من الحكومات المتعاقبة، فإنه ليس مفهوماً اليوم الاستقواء على الناس برفع الدعم، وبالتالي تجويع اللبنانيين وحرمانهم من الدواء ورغيف الخبز.
نقول بالفم الملآن: لا لرفع الدعم عن الدواء والطحين والمواد الغذائية والمحروقات في الوقت الحاضر. نعم، يمكن في الحالة المالية للدولة ، اعتماد قاعدة ترشيد الدعم، ليستفيد منه الناس الذين يحتاجونه فعلاً، لكني أحذر من أن إلغاء الدعم سيؤدي إلى نتائج كارثية على اللبنانيين وعلى البلد.
ونقول بالفم الملآن أيضاً، إن ودائع اللبنانيين يجب أن تعود إليهم، وهذه مسؤولية الأطراف الثلاثة المعنيين: المصارف ومصرف لبنان والدولة. وخطة الحكومة وضعت خريطة طريق لإعادة أموال المودعين إليهم، وعلى الحكومة المقبلة وضع هذا الأمر أولوية في برنامج عملها.
إن الظروف لا تحتمل تضييع الوقت، ولا تحتمل المناكفات السياسية والممارسات الكيدية والثأرية والشروط التعجيزية المتبادلة.
عندما جاءت هذه الحكومة، كان هناك انهيار متدحرج، اقتصاديا وماليا، دفع اللبنانيين للخروج إلى الشارع وأسقطوا الحكومة السابقة. ثم جاءت جائحة كورونا التي استنزفت قدراً كبيراً من الإمكانات المالية، وزادت في الضغط على الاقتصاد المنهك أساساً. ثم جاء انفجار مرفأ بيروت المدمر.
لم تتقاعس هذه الحكومة عن مسؤولياتها حتى بعد استقالتها، وقامت بواجبها بتصريف الأعمال بكل ما أوتيت من صلاحيات دستورية، لأننا نستشعر مسؤولياتنا الوطنية، خصوصاً في ظل هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها البلد.
لكن المطلوب اليوم، وبأسرع وقت، وبعد شهرين من استقالة الحكومة، تشكيل حكومة عاملة وقادرة على التعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان واللبنانيين، لأن البلد لا يستطيع الانتظار شهرين آخرين. وأنا هنا، أرجو أن تثمر الاستشارات النيابية الملزمة في 15 تشرين الأول، وأتمنى التوفيق للرئيس الذي سيتم تكليفه بالإسراع في تشكيل حكومة، ولا يجوز أن يبقى لبنان عالقا في أزماته ينتظر الاستحقاقات الانتخابية في هذه الدولة أو تلك.
أدعو بإخلاص إلى إعادة ضخ الحياة في المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي تركز على الإصلاحات التي تتطابق إلى حد بعيد مع برنامج الإصلاحات الذي وضعته حكومتنا منذ تشكيلها.
إنني أتوجه إلى الجميع، أن يتنبهوا إلى أن الاستمرار في إضاعة الوقت، يضع البلد في المجهول الخطير، وإلى أنه لا معنى لأي مكسب سياسي، مهما بلغ شأنه، إذا دخل لبنان في دوامة الخطر.
إن المسؤولية الوطنية تستدعي تشكيل حكومة فورا، تستطيع استكمال ورشة الإصلاحات التي بدأتها الحكومة المستقيلة، لأن هذه الإصلاحات تشكل البنية الأساسية لإنقاذ لبنان، وترسم خريطة طريق نحو معالجة تراكمات السنوات الماضية التي أنتجت الأزمة المصيرية الحادة التي يعيشها اللبنانيون اليوم.
كما أن هناك حاجة ملحّة لتشكيل حكومة للتعامل مع تداعيات انفجار مرفأ بيروت على مستوى متابعة التحقيقات الجارية لمحاسبة المسؤولين عن هذا الانفجار، وإعادة إعمار ما تهدّم، وقد اتخذت الحكومة الحالية قراراً بالتعويض على المتضررين ووضعت آلية لوضع هذا القرار موضع التنفيذ على مراحل، ويفترض أن يبدأ العمل بها خلال فترة وجيزة.
إن هذه الوقائع تؤكّد أن لبنان يحتاج إلى حكومة عاملة، الآن الآن الآن…
لقد بذلنا كل جهد ممكن لوضع عملية الإصلاح على السكة، وأطلقنا فعليا صفارة قطارها، وحققنا بعضاً منها، لأننا نؤمن أنه لا يمكن العبور بلبنان من واقعه القائم على تقاسم الدولة بين القوى السياسية، نحو إطار الدولة الواحدة لجميع أبنائها، من دون استراتيجية ثابتة تضع تصوراً للبنان كوطن يتساوى فيه جميع مواطنيه بالحقوق والواجبات وأمام الدولة والعدالة، وتصوغ بالتالي رؤية واضحة لهوية النظام السياسي الذي يؤمن استقرارا وطنيا، ويحمي جميع المكونات، ويطمئن جميع المواطنين إلى أن الدولة هي المرجعية الوحيدة التي يحتكمون إليها.
أنا على يقين، أن اللبنانيين سيصنعون مستقبلهم بعزيمتهم الصلبة، وسيحفظون وطنهم برسوخ انتمائهم، وسيحمون وحدة لبنان بمتانة روابطهم، وسيكتبون تاريخا مشرفا للأجيال المقبلة.
إن المحنة التي نعيشها صعبة، لكننا قادرون على تجاوزها. وإن المعاناة قوية، لكن إرادتنا أقوى، ونستطيع الانتصار على الأزمة، رغم حدتها، كما انتصرنا في الماضي على أزمات كبيرة وكثيرة.
اللبنانيون شعب يحب الحياة، ولن يستقيلوا من مسؤوليتهم بحماية لبنان، لهم، ولأبنائهم وأحفادهم والأجيال من بعدهم.
الله يحمي لبنان من شر الحاسدين
الله يحمي لبنان من كيد المتربصين
الله يحمي لبنان
عشتم وعاش لبنان