أمريكا العاجزة عن حماية أطفالها

د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي

هل تصدّق أن الولايات المتحدة التي تستنفر جيشها وترسل أساطيلها الحربية وطائراتها وقواتها الى مختلف مناطق العالم، تغزو دولًا وتحتل وتدمر أخرى بذريعة حماية حقوق الانسان، أو لانقاذ شعوب من براثن حاكم مستبدّ أو ديكتاتور ظالم كما تزعم، تقف الآن عاجزة مكتوفة الايدي، أمام تصاعد ظاهرة السفاحين الذين نهلوا دروس الاجرام من نظريات سياستها العنصرية ودستورها المتسامح مع السلاح، واستلهموا لذة القتل من تجارب جيشها الذي لم يترك بقعة في الأرض الا وخلف وراءه فيها الدماء والكوارث؟ لقد أشبع هؤلاء السفاحون غرائزهم الاجرامية من وسائلها الإعلامية التي لطالما روجت لحروب واشنطن العالمية، وتغاضت عن مجازر ربيبتها “إسرائيل”.

نعم صدّق أيها القارئ، أن امريكا تلك الامبراطورية المتجبرة والمتغطرسة، فشلت وتفشل وبكافة السبل والطرق والأساليب والإجراءات والتدابير – في المدارس، في المنازل، في المطاعم، والحدائق، وفي كل جانب من جوانب الحياة – في حماية ودعم أطفالها. وإطلاق النار في المدارس، مثل مذبحة تكساس التي وقعت في 24 ايار الماضي وأودت بحياة 19 طالبًا ومعلمتين، هي واحدة من أكثر الأمثلة عمقًا على هذا الفشل. الآن، ينمو الجيل الثاني في أمريكا في عالم تعتبر فيه حوادث إطلاق النار في المدارس جزءًا من الحياة.
 
هل دفعت مجازر اطلاق النار العشوائي الى تغيير في السياسات الرسمية للحدّ منها؟

في الحقيقة، لم تؤدِّ مجزرة كولومباين إلى تغيير ملموس في السياسة، ولا مثيلتها ساندي هوك، ولا بارك لاند ومذبحة أوفالدي الأخيرة في تكساس.

ولمن لا يعلم، وقعت مذبحة ثانوية كولومباين في  20 نيسان 1999، في مدرسة كولومبين العليا في الولايات المتحدة. حينها شرع الطالبان إريك هاريس وديلان كليبولد، باطلاق النار عشوائيا، مما أسفر عن مقتل 12 طالبا ومدرس واحد، وجرح 21 طالبا، وأصيب ثلاثة أشخاص أثناء محاولتهم الفرار، ثم انتحر الجانيان فيما بعد.

أما مجزرة مدرسة ساندي هوك الابتدائية، فقد حصلت في 14 كانون الأول 2012، وأسفرت عن 27 ضحية، منهم 20 طفلًا.

فيما جرت أحداث مذبحة باركلاند، في ثانوية مارجوري ستونمان دوغلاس في مدينة باركلاند، بولاية فلوريدا الأمريكية، في 14 شباط 2018، وأدت الى سقوط 17 ضحية، و14 جريحًا من طلاب وموظفي المدرسة.

ما يثير الصدمة، أن عدد الأطفال الذين يقتلون بالأسلحة النارية كل يوم في الولايات المتحدة، في حوادث لا تتصدر الأخبار الوطنية أبدا، أعلى بكثير من عدد القتلى من الضحايا في إطلاق النار في المدارس.

ما هو معدل الأطفال الأمريكيين الذي يقتلون باطلاق النار العشوائي مقارنة بالدول الغنية الأخرى؟

في الواقع، إن معدل القتل بالأسلحة النارية للأطفال الأمريكيين ممن هم دون 14 عامًا كبير جدّا مقارنة بالدول الغنية الأخرى، وفقًا لبيانات “معهد القياسات الصحية والتقييم”، حيث تُفقد المئات من الأرواح الأمريكية الناشئة كل عام.

كذلك، حالات الانتحار بالبنادق والوفيات العارضة بالأسلحة النارية بين الأطفال في الولايات المتحدة، أعلى بكثير من نظيراتها، وتقتل البنادق الآن عددًا أكبر من الأطفال، مقارنة بحوادث السيارات.

ليس هذا فحسب، تُعد الإصابات السبب الأكثر شيوعًا للوفاة بين الأطفال والمراهقين والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 1 و 24 عامًا في الولايات المتحدة.
                                          
لأكثر من 60 عامًا، كانت حوادث السيارات السبب الرئيسي للوفاة المرتبطة بالإصابات بين الشباب، ولكن ابتداءً من عام 2017، حلت الإصابات المرتبطة بالأسلحة النارية مكانها لتصبح السبب الأكثر شيوعًا للوفاة.

 وفي هذا الاطار، كشف “مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها” CDC، أنه بين عامي 2000 و 2020، ارتفع عدد الوفيات المرتبطة بالأسلحة النارية بين الأطفال والمراهقين والشباب من 6998 (7.30 لكل 100.000 شخص) إلى 10186(أي 10.28 لكل 100.000 شخص).

ماذا عن دور السياسات الحكومية في موت الأطفال؟

إن عجز وعدم قدرة قادة الولايات المتحدة على دعم وحماية الأطفال، لا يقتصر على قضية الخلل في القوانين المتسامحة والمتساهلة مع اقتناء الأفراد للسلاح، بل يمتد إلى ما هو أبعد من وفيات الأسلحة النارية، والذي يمكن أيضًا اعتباره جزءًا من فشل أوسع في إعطاء الأولوية لرفاه الأطفال والعائلات.

فأمريكا تدير ظهرها للعائلات وفقًا لعالمة الاجتماع بجامعة إنديانا (تدرس سياسة الطفل والأسرة) جيسيكا كالاركو، التي لخصت تعاطي الحكومة الامريكية مع الأسر بالآتي “الحكومة تخبر العائلات بشكل أساسي: أنتم وحدكم. نحن لا نهتم”.

إليكم عينة من عدم الاهتمام هذا

قبل أقل من ستة أشهر، سمح الكونغرس بانتهاء صلاحية الائتمان الضريبي الموسع للأطفال وهي واحدة من أنجح التجارب السياسية في الحد من فقر الأطفال في تاريخ الولايات المتحدة.

بالمقابل، لا يزال الأطفال الأمريكيون ينتظرون لقاح Covid-19، مع تزايد الإحباط من الهيئات التنظيمية التي تشرف على هذه العملية. أما الطامة الكبرى بالنسبة للأمريكيين، فهي ان بلادهم (التي تنفق بلايين الدولارات على السلاح والحروب) تستورد حاليًا حليب الأطفال من أوروبا لأن سوقها الخاصة سمحت بحدوث نقص هائل في العام الماضي، مما يعرض صحة الرضع والأطفال للخطر.

علاوة على ذلك، بحلول نهاية الصيف سينفد التمويل الفيدرالي الذي قدم وجبات غداء مدرسية مجانية لكل طالب أمريكي تقريبًا على مدار العامين الماضيين دون تجديد. ويمكن أن تنتهي أيضًا أحكام المعونة الطبية الطارئة التي تم وضعها أثناء الوباء، مما يؤدي إلى فقدان ما يصل إلى 6.7 مليون طفل للتغطية الصحية.

والأمر الآخر هو أن واحدا من كل خمسة أطفال في الولايات المتحدة يعيش في فقر، مقارنة بتشيلي ورومانيا، ويتضاعف هذا الرقم، مقارنة بمعدل فقر الأطفال في كل من السويد وهولندا وألمانيا.

في المحصلة، فإن المثل القائل: “طبيب يداوي الناس وهو عليل”، يصح تطبيقه على امريكا حرفيا. فمن سخرية القدر أن امريكا التي أسقطت على العالم قانون التدخل الإنساني (واستغلت هذا القانون الدولي لصالح غزواتها واحتلالاتها)، كان الأولى بها أن تضع المبادئ الإنسانية التي تلزمها بحماية أطفالها فوق أي اعتبار، وبالتالي فإن انقاذهم من القتل العشوائي، يعد أهم وأكثر الحاحًا من دعم أوكرانيا مثلًا، بدلًا من أن تتركهم فريسة لجشع وطمع ونزوات ومصالح شركات وتجار وروابط ولوبيات السلاح.