علي عبادي
تركت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أمر فيها بوضع القوات الاستراتيجية الروسية بما فيها القوات النووية في حالة تأهب قتالي، أصداء واسعة في الغرب. واعتبر بعض الساسة والمحللين أن لذلك علاقة بعدم جريان العمليات العسكرية في أوكرانيا وفق ما تشتهي القيادة الروسية. هذا التفسير لا يعكس كل الحقيقة، إن كان فيه شيء من الصحة. فـ”المقاومة” التي يبديها الجيش الأوكراني متوقعة إلى حد ما، برغم القول إنها فاجأت الجانب الروسي، بالنظر الى عديد وتسلح هذا الجيش وقتاله على أرضه. وللمقارنة، فإن الجيش الأميركي وحلفاءه احتاجوا عام 2003 إلى 3 أسابيع لاحتلال بغداد (20 آذار _ 9 نيسان)، وإلى 3 أسابيع أخرى للإنتهاء من العمليات القتالية الرئيسية في العراق. هذا والعراق كان محاصراً ومعزولاً لمدة 13 عاما (منذ العام 1990)، أي أنه كان خائر القوى، والعديد من دول العالم كانت إلى جانب الدولة المهاجِمة. أما أوكرانيا اليوم فإن أغلب دول العالم بقيادة المايسترو الأميركي تقف بجانبها، بينما الطرف الروسي المهاجِم هو من يتعرض للحظر والضغط.
إذاً، هناك سبب آخر يبرر تلويح روسيا بالجهوزية النووية، وهو في تقديري محاولة الغرب كسر روسيا بالحصار المالي والاقتصادي والتجهيز لحرب طويلة من أجل إغراقها واستنزافها في أوكرانيا، بعدما رفض مناقشة مطالبها بضمانات أمنية تتعلق بوقف تمدد حلف “الناتو” الى الدول المحاذية لروسيا والتوقف عن نصب صواريخ متوسطة المدى قرب حدودها.
من المفارقات هنا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كان يشكو يائساً في اليوم الثالث للعمليات العسكرية من تركه وحده في الميدان، وفجأة بدأ يتحدث بثقة عن مواجهة روسيا عسكرياً وعن وقوف العالم معه. فماذا حصل؟
لقد حصل تحول في الموقف الأوروبي، عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتوجه لـ “كسر استراتيجية بوتين”. بينما قال الناطق باسم رئيس الوزراء البريطاني إن المطلوب “إسقاط نظام بوتين” بالعقوبات المفروضة عليه رداً على غزو أوكرانيا، وذلك قبل أن يراجع تصريحه الذي أثار الريبة قائلاً إن الغاية هي “وضع حد” لروسيا.
فهمَ بوتين عقل الغرب الذي يتسلح بالعقوبات لخنق روسيا اقتصادياً ويرى فرصة سانحة قد لا تتكرر من الإجماع الأميركي – الأوروبي لكسر روسيا وقلب المعادلة. وفي حال تحقق ما يرجون، سيؤدي هذا إلى ارتداد كرة النار الى روسيا نفسها وفتح الباب أمام احتمالات زعزعة الاستقرار فيها. وللتذكير، تم استخدام الحصار الاقتصادي ضد إيران لهدف معلن وهو شلّ النظام فيها وتثوير الشعب الذي يعاني من تبعات الحصار عليه. لكن صبر الإيرانيين ووصولهم إلى العتبة النووية قلبَ النتائج.
قضية أوكرانيا أصبحت قضية وجود بالنسبة للنظام في روسيا، وهو لا يستطيع تحمل أية هزيمة عسكرية (روسيا المعاصرة بنت مجدها على أنها لم تخسر حرباً في عهد بوتين). وفي حال هُزمت روسيا في حرب أوكرانيا، سيترك ذلك عواقب قد تمتد الى تفكك السلطة السياسية وإلى اهتزاز وحدة الاتحاد الروسي بالنظر الى تجارب انفصال ما زالت ماثلة. تاريخياً، كل هزيمة ابتليت بها روسيا أدت إلى انهيار داخلي وخسارة قسم من أراضيها. حدث ذلك بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وحدث الأمر نفسه بعد عام على هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان عام 1989. علاوة على ذلك، يُعتبر بوتين – الى حد كبير- صمام الأمان للنظام السياسي القائم في روسيا ولوحدة الأراضي الروسية، وعلى يديه تحققت استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية.
سلاح الاقتصاد الذي يتشبث به الغرب لهزيمة خصومه، معطوفاً على استغلال وتوظيف حرب أوكرانيا لضرب مكانة روسيا، يعادل تهديداً نووياً لروسيا. صحيح أن توازن الردع النووي منع كارثة نووية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ظروف اليوم تشبه إلى حد ما واقع ما قبل تلك الحرب. يومها كانت ألمانيا تعيد بناء قدراتها العسكرية لمحو الشعور بالمهانة واستعادة اراض سُلخت منها بعد الحرب العالمية الأولى، واليوم تعيد روسيا بناء قدراتها العسكرية وتريد استعادة مكانتها وأراض سُلخت منها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
التنافس الدولي والشعور برغبة الانتقام من دول مسؤولة عن الماضي المهين محرّكان للأحداث الراهنة. ويبدو أن أميركا توظف دول أوروبا لخوض حرب عالمية ثالثة بوسائل اقتصادية وسياسية وعسكرية ضد روسيا على الأرض الأوروبية، من دون أن تخسر هي شيئاً. وهي خاضت الحربين العالميتن الأولى والثانية على الأرض الأوروبية أيضًا.
يبدو أحياناً أن العالم يتعلم من دروس التاريخ، لكن ليس دائمًا.