بوتين وهندسة الأمن الأوروبي عبر أوكرانيا

د. علي دربج ـ باحث ومحاضر جامعي

لطالما عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال معظم سنواته الـ 22 في منصبه الرئاسي، على تحقيق التوازن بعناية بين مكانة روسيا في أوروبا، وعلاقاته مع دولها. لقد تآلف مع بعض العواصم، وخاصم اخرى، كما سعى إلى التكامل الاقتصادي مع عدد منها.

حتى بعد أن أدت استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 إلى تدهور العلاقات واستفزاز بعض الدول الأوروبية، لم يقطع بوتين تواصله مع الآخرين عملا بمبدأ ـ إذا لم تكسبهم تمامًا، فعلى الأقل افتح بابا للدبلوماسية.

ولكن مع أزمة هذا الشتاء حول أوكرانيا، يتبنى بوتين علانية شيئًا تجنبه منذ فترة طويلة: الا وهو العداء مع أوروبا ككل. من هنا كلما استجابت أوروبا لتهديدات موسكو، وردت عليها بتعزيزات عسكرية باتجاه الشرق والتعهدات بفرض عقوبات اقتصادية، والايحاء بالتغلب على خلافاتها الداخلية العميقة، زاد تصعيد بوتين مرة أخرى. وبدلاً من التركيز على الدبلوماسية عبر العواصم الأوروبية، فقد نقلها إلى حد كبير إلى واشنطن.

أما لماذا؟.. فإليكم الاجابة

في الواقع، يعكس هذا التحول، تصور موسكو للحكومات الأوروبية على أنها دمى أمريكية يتم إبعادها جانبًا، فضلاً عن تقديم نفسها (موسكو) كقوة عظمى تقف بجانب أوروبا بدلاً من كونها جارة قوية بشكل غير عادي. كما يُظهر طموح روسيا في عدم مجرد إدارة النظام الأمني الأوروبي، بل إعادة تشكيله بالكامل.

تشير حركة بوتين، الى انه لم يتخلى عن أوروبا بالكامل. فهو كان قد أجرى مكالمة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن الازمة. وقد ينسحب من الحدود في الوقت المناسب لاستعادة العلاقات الأوروبية، أو يسعى إلى القيام بذلك بمجرد أن ينقشع غبار معركة تحقيق شروطه في اوكرانيا. غير ان نهجه هذا، قد يجعل أوروبا أكثر عسكرة وانقساما.

وما هو هدف بوتين الحقيقي؟ فلنقرأ سويًا

أشار الكرملين مرارًا وتكرارًا إلى أنه على الرغم من أن مخاوفه مع أوكرانيا ربما تكون قد أوصلته إلى هذه النقطة من التصعيد، إلا أنه يسعى إلى شيء أوسع: العودة إلى الأيام التي لم يتم فيها التفاوض على النظام الأمني في أوروبا عبر عشرات العواصم، بل جرى تحديده بين قوتين عظمتين.

كتب فلاديمير فرولوف، المحلل السياسي الروسي، عن طموحات موسكو، قائلا “كما في أواخر الستينيات، يمكن للتفاعل المباشر بين موسكو وواشنطن أن يعطي إطارًا سياسيًا لوفاق في المستقبل. يعكس هذا الامر اعتقادًا متزايدًا في موسكو بأن هذا الترتيب ــ اي الاتفاق المباشرة بين الكرملين والبيت الابيض ـــ هو ما يجب ان يحصل، خصوصا بعد تجارب موسكو المريرة مع اوروبا فيما يتعلق باوكرانيا، بعدما اظهرت (اي اوروبا) عجزها بالتأثير على كييف بشأن التزاماتها واتفاقاتها مع روسيا، التي ما لبثت ان تنصلت منها كما تقول موسكو.

فبعد أن استعادت روسيا شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا في عام 2014، وقد فرضت عليها الحكومات الغربية عقوبات اقتصادية نتيجة ذلك، كان من المفترض حل الأزمة من خلال المفاوضات بين موسكو وكييف وباريس وبرلين.

وفي حين أن نص “اتفاقيات مينسك” تلبي اسمياً المطالب الروسية ، فقد خرج الكرملين وقال أن أوكرانيا قد تراجعت. وانطلاقا من هنا، استنتجت موسكو بحلول عام 2019 أن “الدول الأوروبية إما غير راغبة أو غير قادرة، وربما غير قادرة، على إجبار كييف على المتابعة”.

اكثر من ذلك عزز هذا السلوك الاوروبي الضعيف  القناعة لدى الكرملين بان الاوروبي غير مهيمن، ولا صلة لهم بالموضوع، لذلك فإن الثابت في موسكو هو قولهم انه “يتعين علينا التحدث إليه مع الولايات المتحدة لأنهم الوحيدون المهمون حقًا”.

ولماذا لا تعولّ روسيا على اوروبا وتفضل التفاوض مع اميركا بشأن اوكرانيا. فلنكتشف ذلك معًأ عمليا، تراجعت القوة العسكرية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ــ والتي حاولت تأكيد نفسها كمحاور موسكو بشأن أوكرانيا ــــ بشكل كبير مقارنة بالولايات المتحدة وروسيا في السنوات الأخيرة. وقد تفاقم هذا بسبب رحيل بريطانيا.

في الوقت نفسه، أدت الانقسامات الحادة داخل أوروبا حول كيفية التعامل مع روسيا، إلى جعل القارة تكافح من أجل اتباع نهج متماسك، بحيث ترك رحيل أنجيلا ميركل، المستشارة السابقة لالمانيا، ومحاولات ماكرون الفاشلة لقيادة أوروبية غير رسمية، أوروبا تنحرف الى هذا الوضع الراهن من التخبط، والميل اكثر فأكثر نحو التمسك بقيادة الولايات المتحدة.

وتعقيبا على ذلك، اشار جيريمي شابيرو، مدير الأبحاث بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في مؤتمر لـ”معهد بروكينغز” هذا الأسبوع، الى انه “خارج باريس وبروكسل، الجميع في أمس الحاجة إلى قيادة الولايات المتحدة بشأن هذه الأزمة”.

وأضاف: “كل هذا يعني أن وجهة نظر روسيا بأن أوروبا هي دمية للولايات المتحدة ولا تحتاج حقًا إلى المشاركة بشكل منفصل، قد تحققت”.

ما هي اجندة بوتين المستقبلية تجاه اوروبا؟

على الرغم من أن خطة بوتين الدقيقة لأوكرانيا لا تزال غامضة من خلال التصميم الظاهر، إلا أنه أكد أن أجندته تمتد إلى أوروبا ككل.

في الأزمات السابقة بشأن أوكرانيا، ركزت روسيا بشكل ضيق على هدف منع كييف من التحالف مع الغرب. لقد سعت إلى تجنب إثارة الكثير من المعارضة الأوروبية ، وحاولت حتى كسب المساعدة الأوروبية في حماية مصالحها في أوكرانيا.

الآن، ربما كنتيجة لفشل الإكراه الذي يركز على أوكرانيا في تحقيق أهدافها، تطالب موسكو بإصلاح الهيكل الأمني لأوروبا نفسها، من خلال إنهاء أو حتى التراجع عن توسع الناتو باتجاه الشرق.

مثل هذا التغيير، سيعني تغيير القواعد التي تحكم أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة. وسيعني ذلك ايضا، إضفاء الطابع الرسمي على الخط الفاصل بين الغرب والشرق، مع منح موسكو القدرة والسيطرة في الأخير.

من هنا، فإن استعداد بوتين لقبول أعمال عدائية واسعة النطاق مع أوروبا يمكن أن يقوي موقفه في أوكرانيا من خلال إظهار أنه على استعداد للمخاطرة حتى بالغضب الجماعي في القارة لمتابعة مصالحه هناك.

لكن مهلا، فخطة بوتين لن تقتصر على اوروبا وحدها، لكن ستشمل وان بشكل غير مباشر اميركا ايضا. تكشف هذه الأزمة عن مشكلة في إستراتيجية الولايات المتحدة. فالأمن الأوروبي، لا يزال غير مستقر أكثر مما يبدو. هناك القليل من الأدلة على أنه بدون الولايات المتحدة ، يمكن للقوى الأوروبية ردع موسكو أو شق طريقها للخروج من أزمة كبرى. الاتحاد الأوروبي غير موجود في الحديث بين موسكو وواشنطن ، ويستجدي الأهمية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة مقيدة ماديًا، وتسعى إلى التركيز على المحيطين الهندي والهادئ وإصلاح التوازن العسكري المتدهور تجاه الصين، وبالتالي فانفلات الامور سيجبر اميركا على العودة، لتحصين مظلة الحماية لاوروبا مجددا.

في المحصلة، إن ما تصنعه روسيا في أوكرانيا هو اختبار للهندسة الأمنية في أوروبا أكثر من أي شيء آخر.