في لبنان، ثمّة جوقة سياسية وإعلامية تميل كيفما مالت أميركا. هؤلاء لا حرج من نعتهم بـ”عبيد” أميركا في لبنان. يحملون المصلحة الأميركية ويعملون لأجلها حتى ولو كان الثمن خراب لبنان. ثمّة من يمارس ازدواجية في المعايير أو بالأحرى لا يكترث لأي مبدأ من مبادئ الدستور والقانون. هذه الازدواجية تنطبق على هؤلاء في كل شيء. تظهر جلية في مواقفهم اللامسؤولة وممارساتهم المشبوهة التي يجعلون فيها كل شيء طوع أهدافهم حتى القضاء الذي بات وجهة نظر سياسية. طبعًا نحن هنا لسنا في وارد التعميم على القضاء كسلطة أو نظام. لكن ثمّة نماذج برزت في الآونة الأخيرة بيّنت مستوى الازدواجية والاستنسابية التي يقارب بها نافذون قضائيون الأمور. ولا يخفى أنّ الولايات المتحدّة الأميركية نجحت في الضغط على جهات سياسية وقضائية نافذة لإصدار قرارات تصب في مصلحتها وتخدم أجندتها “التخريبية” في لبنان.
ولعلّ نموذجي القاضي محمد مازح وطارق بيطار خير دليل على ازدواجية البعض التي نتحدّث عنها وعن تحول القضاء الى وجهة نظر سياسية. في النموذج الأول، قامت الدنيا ولم تقعد العام الماضي على القاضي مازح. جنّ جنون أدوات واشنطن في لبنان على تجرؤ قاضي الأمور المستعجلة السابق في صور وإصداره قرارًا قضائيًا يقضي بإسكات السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا. لا حرج لديهم في أن تصول وتجول “جاسوسة” عوكر ناشرةً الفتنة أينما حلّت، أما المس بها فقد بات من الكبائر حتى ولو كان قرار القاضي النزيه قانونيًا مئة بالمئة. وعليه، استدعى مجلس القضاء الأعلى في حينها مازح لاستيضاح حيثيات قراره بمنع وسائل الإعلام من استصراح شيا ليحال الرجل الى لجنة تحقيق قضائية ما دفعه الى تقديم الاستقالة صونًا لكرامة القضاء.
أما النموذج الثاني والمتمثّل بالمحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ طارق البيطار فقد بات “بطلًا” قوميًا من قبل أولئك أدعياء السيادة الذين رأوا في “فعلة” القاضي مازح المشرّفة فرصة للاستنكار والإدانة لنيل الرضا الأميركي. مارس البيطار كل شيء إلا القانون. ارتكب أخطاء قانونية وثغرات بالجملة. طبّق الاستنابية وازدواجية المعايير حتى نال دعمًا أميركيًا علنيًا من قبل لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي. لم يتوان عن إطلاق التصريحات الإعلامية والتسريبات يمنةً ويسرة وهنا تكمن المفارقة. لم يتجرأ أحد على إسكات البيطار والتحقيق في التسريبات الصادرة عنه، بينما سبق أن جرى كف يد النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون إثر تصريح صحفي لموقع “العهد” الإخباري. ولاحقًا جرت مساءلتها من قبل مجلس القضاء الأعلى، أما البيطار فيُمعن في تصريحاته وتسريباته ذات المنحى السياسي ولا من يسأل أو يحاسب.
اليوم، ثمّة جوقة تهلّل لممارسات بيطار رغم كل التجاوزات القانونية. هي نفسها الجوقة التي أدانت ممارسات القاضي مازح رغم أنها قانونية مئة بالمئة. المعيار والمقياس لدى هؤلاء واحد “الرضى الأميركي” والمصلحة الأميركية التي تتجسّد في هدف واحد “ضرب المقاومة”، تلك الأمنية التي تسعى واشنطن لتحقيقها منذ سنوات وبأدوات مختلفة. فتنة عام 2005 واحدة من المحاولات التي عملت فيها واشنطن على تحقيق هذا الهدف ومنيت بفشل ذريع. واليوم تعمل على حياكة فتنة جديدة مستخدمة البيطار كأداة “طيّعة” تنتهك القرارات وتعبث بالقانون، فيما لم يتجرأ المعنيون حتى الساعة على إقالة البيطار مع ما يحمله بقاؤه من تهديد للسلم الأهلي. تهديد بدأت أولى علاماته بالاعتداءات الخطيرة التي تعرّض لها متظاهرون سلميون متجهون للتظاهر أمام قصر العدل ما أدى الى سقوط شهداء وجرحى. وعليه، حان لبيطار أن يرحل ومعه الفتنة الأميركية فالقضاء ليس وجهة نظر سياسية.