وثائق باندورا.. الحاكم الملك

أحمد فؤاد

عرف التاريخ البشري الممتد نزعات جنونية في التفرد والجنون، من حكام ظنوا أنهم آلهة، فوق الحساب وأعلى من كل قانون أو قيد، ودمروا البوصلة الطبيعية لأوطانهم نحو التقدم، ليشدوها بوثاق غليظة إلى الماضي وإلى أسفل، إلى عهود الكهانة الفرعونية القديمة، التي كانت ترى الملك ظلًا للإله على الأرض، ابنه، والممثل الوحيد لكل ما هو مقدس ومصدر كل ما هو ملزم.

وفي الحديث، تبرز بعض الشخصيات المعقدة، التي ترى العالم يدور حول ذاتها المريضة، تريد إعادة العقارب للوراء، والتمتع بما تراه نفوسها جديرة به من حماية وتقدير فائقين، فتصدر القهر والظلم إلى شعوب كاملة، وتخدم دون أن تدري -أو تدري- إرادة عدوها وتحقق له أهدافه بأيسر السبل، والثمن يكون وطنًا كاملًا معروضًا للبيع بأبخس ثمن، لقاء الأضواء التي تغمر الشخصية المريضة، الشيطان الذي يملك القرار.

“أنا الدولة والدولة أنا”.. كلمات قليلة خرجت من فم الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، ليسجلها التاريخ دليلًا وشاهدًا على الجبروت المطلق لملك بلغ به العتو مبلغًا عظيمًا، وأراد وضع سلطته فوق رقاب البشر والحجر، وجعل من رغباته قانونًا ومن إرادته دستورًا أعلى لبلاده، طوال فترة حكمه.

الملك الشمس، هكذا يلقب لويس الرابع عشر، وهو صاحب ثاني أطول فترة حكم متصلة في التاريخ الإنساني المعروف لنا، 54 عامًا، لم يحرك لسانه بالكلمات أمام مجلس برلمان العاصمة الفرنسية باريس، لتأكيد سلطاته في مواجهة أية تحديات قائمة أو مقبلة، ولوضع النقاط على الحروف في بداية تولي الملك للحكم بشكل كامل، إذ كان يبلغ فقط 16 عامًا في 1655.

الكلمات الدلالية لم يكن منشؤها الفراغ تمامًا، العديد من الباحثين وأساتذة التاريخ لا يعتبرون أنه من الممكن كتابة تاريخ فرنسا دون لويس السابع عشر، الرجل الذي نقل البلد المظلم تمامًا في عقود للحاق بحركة النهضة الأوروبية، وأقام الصروح العلمية والفنية في المجالات كافة للوقوف على قدم المساواة مع إنجلترا وإسبانيا وهولندا، فأنشأ أكاديميات العلوم والفن والنحت والهندسة والرسم، ليصبغ البلد كله بصبغته الخاصة، وتقدم فرنسا نسختها الحضارية في العلوم والفنون والآداب.

والنتيجة المباشرة كانت 3 قرون متتالية من الصعود العالمي، وضعت فرنسا بجوار إنجلترا، كأقوى دولتين في العالم، وصاحبتي أكبر إمبراطورية توسعية عرفها التاريخ، ومنح لبلاده كلها جواز المرور إلى عصر جديد تمامًا، لا تعرف فيه من عهودها القديمة الغارقة في الفوضى والتخلف والجهل شيئاً كثيرًا.

لا يختلف كثيرًا فعل رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، عن قناعة لويس الفرنسي، الرجل رفع شعار “لا يُسال عما يفعل”، في وجه كل من يريد إصلاحًا أو تطهيرًا، وفي أهم لحظات لبنان المفصلية، بات سلامة هو الترس الأهم في ماكينة الحرب الأميركية الاقتصادية على البلد، ورأس حربة المشروع الجديد لكسر الإرادة الوطنية، وإخضاع القرار السياسي لواشنطن وتل أبيب.

طوال سنوات وجوده على رأس المصرف المركزي اللبناني، مارس سلامة، ويمارس، فكرة التخسير المتعمد للناس لصالح ضخ ملايين الدولارات إلى شركات وأثرياء وشبكة ممتدة من المصالح الخارجة عن كل مألوف، والتحقيقات الجارية مع الحاكم في سويسرا وفرنسا، لا تترك مجالًا لتوقع ما اقترفه الحاكم بأمره في لبنان.

ومع الدخول المحتمل لصندوق النقد الدولي إلى لبنان، يصبح سلامة هو الرقم الأهم في المعادلة الجديدة، التي تستهدف وقف -أو محاصرة- آثار الانتصار الهائل لحزب الله، وكسره دائرة الحصار الأميركي المفروض على البلد، واستجلاب الوقود الإيراني لضخ الحياة إلى شرايين الاقتصاد المنهك.

بكلمات قليلة سبق أن صرح حاكم مصرف لبنان بالتوجه إلى خصخصة المصارف، وهو ما يفتح الباب أمام نزع آخر أوراق التوت عن السوق اللبنانية كلها، ووضعها تحت التصرف المباشر للأميركي والصهيوني، والأهم من المصارف، هو أن سلامة بموقعه، سيكون الطرف اللبناني في مواجهة معركة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ويا للعجب!

لكن خلال الأيام القليلة الماضية خرجت إلى النور وثائق باندورا، التي تمثل أحدث موجة في إعصار التسريبات حول الملاذات الضريبية والمالية لعدد من أهم الحكام ورجال السلطة والنفوذ في العالم، والتي شملت اسم حاكم لبنان المركزي رياض سلامة، وشقيقه رجا، ونجل الأول نادي، في سلسلة جديدة من الفضائح المالية الأحدث بحق المحافظ المثير للشبهات.

ولمحافظ مصرف لبنان علاقة طويلة ومحببة مع الشهرة، أينما حل تلاحقه العيون، لكن العيون المتطفلة تحولت في السنوات القليلة الماضية إلى عيون مترصدة، أعقبتها تدخلات أمنية غير مسبوقة تاريخيًا لحاكم مصرف مركزي على الإطلاق، ففتحت التحقيقات ضد أعماله المشبوهة في سويسرا وفرنسا، بالإضافة إلى لبنان.

وبدأ جهازا الشرطة في سويسرا وفرنسا تحقيقات ماراثونية، بحق الحاكم رياض سلامة، حيث يتهمه الادعاء الفرنسي بمحاولة تهريب بائسة، عبر حقيبة، واتسعت الدائرة لتشمل تحقيقات موسعة في ثروته عبر أوروبا، بينما يواصل الأمن السويسري جمع تفصيلات حول مصادر ثروة سلامة، والتي وصفت بـ”غير المشروعة”، طبقًا لعدة تقارير سابقة.

وراسل المدعي العام لسويسرا الجهات القضائية في لبنان، لاستكمال تحقيقاته بحق رياض ورجا سلامة، وماريان حويك المساعدة المقربة من رياض، بشأن تحويلات غير شرعية تبلغ 300 مليون دولار، أجريت بين لبنان وسويسرا، ويعتقد المحققون السويسريون إنها نتيجة أنشطة غسيل أموال.

وتأتي وثائق باندورا، فقط، لتكمل رسم الصورة حول محافظ لبنان، والتي لم تكن معروفة مسبقًا للغالبية، في ظل قيامه بأكبر عملية سطو في التاريخ، عبر سرقة أموال المودعين وإجبارهم على استردادها بالعملة المحلية، في عز انهيارها بسبب السياسات النقدية التي اتبعها رياض سلامة على رأس المصرف المركزي.

عدة شركات وردت في أوراق باندورا، تخص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، هي شركة AMANIOR وشركة FORRY Associates Limited وشركة Toscana، وعبر هذه الشركات حوّل رياض سلامة إلى شقيقه رجا ونجله نادي، نحو 300 مليون دولار، مقابل عمولات بيع سندات “يوروبوندز”، لصالح المصرف المركزي، في خرق فاضح لكل قانون يمنع استغلال السلطة أو يضع عليها حدودًا للتفرقة بين المقبول واللصوصية.

في عز الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان، بداية من العام 2009، والتي وصفها البنك الدولي بأخطر أزمة نقدية في القرن العشرين، وأدت إلى خسائر فادحة بالنسبة للمودعين، كانت الشركات التي تتمتع بحماية سلامة على رأس المستفيدين منها، وفوق الفشل في ضبط السياسة النقدية من قبل حاكم المصرف منذ 1993، فإنه اختار شركات مثل “سوليدير”، التي يعد شقيقه هو واجهتها الحقيقية، للحصول على تسهيلات ائتمانية بعشرات الملايين من الدولارات في وقت ذروة العاصفة.

المحاكمة في لبنان ليست قريبة على أيه حال، فالمحكمة التمييزية في القضايا المرفوعة ضد سلامة أصدرت أغرب قرار في تاريخ أي قضاء بأي مرحلة وفي أية دولة، إذ أوجبت تحريك الدعاوى ضد سلامة عقب الحصول على موافقة سلامة نفسه، لتؤمن الحماية الداخلية على الأقل، في مرحلة صعبة يخوض فيها سلامة وفريق دفاعه معارك أخرى في أوروبا ضد الادعاء الرسمي في فرنسا وسويسرا.

أخيرًا.. وثائق باندورا، وقبلها وثائق سويس ليكس ووثائق بنما، قد تكون بالفعل حروبًا مالية واسعة النطاق بين الملاذات الضريبية والمالية الأفضل، إذ تعد السرية هي الضمان الأول لوجهة الأموال المنهوبة من أجزاء عديدة من العالم، وكلما اكتشف الحكام وأصحاب السلطة فشل مكان ما في حماية بياناتهم فإنهم سيهرعون إلى مكان جديد، وهكذا دواليك، لكن كل هذه الأمور لا تعني الغياب بالكامل عن متابعة ما يخصنا -كعرب- في وثائق باندورا، والتي كشفت عن ثروات العديد من الحكام، بالإضافة للتحويلات المالية التي قامت بها السلطات السعودية لتمويل جزء من واردات حربها الظالمة على اليمن، وقيامها باستيراد أسلحة وذخائر محرمة دوليًا، تمثلت في الفسفور الأبيض، الذي قصفت به اليمن الصامد، والمنتصر حتمًا.a