لا تجد الولايات المتحدة الأميركية حرجًا في أن تحشر أنفها في كل شيء في لبنان. من يراقب تحركات وتصريحات السفيرة الأميركية دوروثي شيا -التي تتقن دورها كجاسوسة لا دبلوماسية- يعِ جيدًا حجم التدخل السافر بالشؤون الداخلية. القضاء لم يسلم منذ زمن من الاستباحة الأميركية للسيادة اللبنانية. التصريحات الأميركية التي تغلّف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت نموذجًا. تُصر أميركا على حرف مسار التحقيق و”تعويم” كل من يخدم سياستها القائمة على التعمية. هذا النهج عبّرت عنه مطالبة نواب في الكونغرس الأميركي بـ”حماية” قضاة التحقيق في انفجار المرفأ. تظهر واشنطن نفسها بموقع “الحريص” على الحقيقة بينما تسعى سعيها لعرقلتها بشتى الوسائل. هي لا تدافع عما تسمّيه استقلالية القضاء بل تدافع عن نهج ازدواجية المعايير والاستنسابية لعرقلة سير العدالة.
واكيم: أميركا تتدخّل وتستبيح كل شيء في لبنان
أستاذ العلاقات الدولية الدكتور جمال واكيم يشدّد في حديث لموقع “العهد” الإخباري على أنّ أميركا تتدخّل وتستبيح كل شيء في لبنان وهذا ليس سرًا. برأيه، ثمّة أصول لعمل السفير الذي لا يجوز أن يلتقي بقيادات سياسية ويعلن مواقف ويلتقي وسائل إعلام تعمل على تلميع صورته وتتحول الى منبر له. ثمة مشكلة جوهرية في أداء السفيرة الأميركية في لبنان -يقول واكيم- الذي يلفت الى أنّ حالة لبنان ليست فريدة بل هي حالة جرى تعميمها في العالم. الواقع بيّن أنّ كل الدول التي خرجت عن هذا المنطق في التعاطي جرى حظرها وفرض حصار عليها ككوبا. الأخيرة عندما رفضت أن تكون مستعمرة جرت شيطنتها من قبل أميركا، والتجربة نفسها مع كوريا الشمالية التي جرت شيطنة رئيسها لعدم انصياعه للرغبات الأميركية. المسألة ذاتها تنسحب على إيران والمقاومة، فأي رمز يعارض النهج الأميركي تتم شيطنته.
أي شخص تقف الولايات المتحدة الأميركية معه فهو على خطأ
ويستشهد واكيم في سياق قراءته للمقاربات الأميركية بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يحمل هم “إشادة” الولايات المتحدة الأميركية به على قاعدة أنها اذا شتمته فهو على حق. هذا الرأي لعبد الناصر يصلح -وفق واكيم- كقاعدة لكل مقام. أي شخص تقف الولايات المتحدة الأميركية معه فهو على خطأ. وعليه، يسأل واكيم: “على أي أساس أصدر نواب الكونغرس هكذا موقف؟”. برأيه، فإنّ هذا التعاطي لا تقبله قواعد التعامل بين الدول لكن للأسف ثمّة تدخل في كل شيء، فموقف الكونغرس ليس التدخل الوحيد في لبنان. لهذا التدخل أوجه متعددة تظهر عندما يأتمر سياسيونا بتعليمات السفيرة الأميركية، وعندما يمتنعون عن التوجه الى سوريا دون الحصول على الضوء الأخضر من أميركا، وعندما نرى إعلامًا يرفع الصوت في “مناسبات” معينة ويخفته في مناسبات أخرى.
لبنان ليس دولة ذات سيادة بل “مستعمرة”
كل هذه الظواهر تطرح -برأي المتحدّث- مسألة أن لبنان ليس دولة ذات سيادة بل “مستعمرة” تتّخذ شكل الدولة. ومن هنا، يرى واكيم أنّ حزب الله هو محاولة بناء دولة ضمن “المستعمرة” لا كما يدّعي البعض أنّه دولة ضمن دولة، وعليه يؤيّد واكيم توسع هذه الدولة طالما لا دولة لدينا على أمل أن يصبح لدينا دولة مستقلة.
محاولة للذهاب الى التحقيق الدولي
ويلفت واكيم الى أنّ أميركا لو كانت حريصة على التحقيقات في انفجار المرفأ لعملت على تأمين صور الأقمار الصناعية الكفيلة برؤية أصغر الأشياء في لبنان لا أن يجري التذرع بحجج واهية. وهنا يسأل: “أين صور فرنسا الأم الحنون؟”. ويُدرج واكيم موقف الكونغرس في خانة المحاولة للقول إنّ القضاء اللبناني لا يقدّر له القيام بواجبه فلنذهب الى التحقيق الدولي أي الى محكمة دولية لتكرار تجربة المحكمة الخاصة برفيق الحريري وتصنيع شهود الزور. كلام نواب الكونغرس قد يكون تمهيدا لهذه الخطوة لأن أميركا تريد أن يكون هناك سيف مصلت على الناس، وعندما تفشل ستحاول بطريقة أخرى وتستخدم سيف العقوبات. وهنا يقول واكيم: “لماذا لا يتحرّك القضاء عندما يموّل الأميركي المنظمات غير الحكومية ووسائل إعلامية وسط اعتراف أميركي بصرف 10 مليارات دولار في هذا الصدد، ومليار دولار منذ اندلاع أزمة 17 تشرين الأول. أليس هذا تدخلا سافرًا؟ لماذا لا يتحرّك القضاء اللبناني؟”.
وفي سياق حديثه، يلفت واكيم الى أنّ الجانب الأميركي يعلم الشاردة والواردة بكل التداولات المالية في النظام المصرفي، سائلًا باستغراب: “لماذا لم تتمكّن واشنطن -ما دام أنها حريصة على لبنان- من ضبط تهريب عشرات مليارات الدولارات من البلد والذي أتى بإيعاز منها؟”.
لم يعد سرًا على أحد -حتى دُعاة السيادة- حجم الانتهاك الأميركي للبنان في كل القطاعات، والذي يتناغم للأسف مع حملة “تطبيل” إعلامية لا حرج لديها في تعويم الأميركي حتى لو كانت النتيجة “خراب” هذا البلد طالما “الدفع شغّال”.