التغيرات العالمية والشرق أوسطية بعد الانسحاب الامريكي من أفغانستان

التغيرات العالمية والشرق أوسطية بعد الانسحاب الامريكي من أفغانستان

د.علي مطر

دروس وعبر على الولايات المتحدة الأميركية أن تستقيها من انسحابها من أفغانستان. كما أن دول العالم من حلفاء أمريكا وخصومها وأعدائها سيبحثون في هذا الانسحاب للبناء المستقبلي عليه. وبغض النظر عن صورة الانسحاب الأمريكي الفاشل، والسرديات التي ساقتها إدارة جو بايدن لهذا الانسحاب، هناك أسئلة ثلاثة لا بد من البحث فيها والاجابة عنها، فكيف سيكون مستقبل العالم بعد تراجع هيمنة واشنطن؟ هل هذه الهيمنة الأمريكية بدأت بالأفول فعلاً؟ وكيف سيكون مستقبل منطقة الشرق الأوسط؟ ثم من سيملأ الفراغ بعد الانسحابات الأمريكية التي يمكن أن تتوالى؟ وعلى الرغم من تعقيدات هذه الأسئلة وصعوبة الإجابة عنها راهناً، لكن لا بد من الوقوف عندها دولياً وإقليمياً لمعرفة مستقبل العالم والمنطقة.

أولاً: عالم متعدد الاقطاب متحرر من الهيمنة

منذ ثمانينيات القرن الماضي، نظّر الأمريكيون لفكرة القرن الأميركي وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على السياسة الدولية، لتصبح واشنطن هي الدولة القائدة بعد مقاومة الايديولوجيات المعادية للمصالح الأميركية والتي كانت تتمثل في الاتحاد السوفياتي. هكذا دعا وليام كريستول وهو أحد صقور المحافظين الجدد في عهد الرئيس دونالد ريغان، لكن ذلك لا يكفي إذ لا بد أن يتم الترويج لأفكار جديدة تسوق عملية قيادة الولايات المتحدة الأميركية للعالم وهذا ما تحدث عنه روبر كاغان مؤسس دائرة التفكير في مشروع القرن الأميركي الجديد.

أيضاً كان هناك آخرون مع هذه الدعوة منهم فرانسيس فوكوياما، الكاتب والمفكِّر الأميركي ذو الأصول اليابانية، في كتابه نهاية التاريخ، لكن فوكوياما نفسه في مقاله المنشور في مجلة “إيكونوميست” البريطانية، يُعلِّق على مشاهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وإذا ما كان هذا الانسحاب يُمثِّل علامة على نهاية سطوة أميركا على العالم، حيث يرى أن صورة الانسحاب مَثَّلت لحظة فارقة في التاريخ، وبداية لحقبة نأي أميركا بنفسها عن العالم، معتبراً أن ذلك لا يمنع أن تظل أميركا قوةً عظمى في العالم لسنوات عديدة، غير أن مدى فاعلية هذا النفوذ سيعتمد بالطبع على قدرتها على حل قضاياها الداخلية وليس مراجعة سياساتها الخارجية. فوكوياما الذي كان ينظّر للهيمنة الأمريكية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأ يرى أن العالم يعود إلى وضعه الطبيعي الذي تسود فيه تعددية الأقطاب، حيث اكتسبت بلدان كالصين وروسيا والهند والمحاور الأخرى كأوروبا نفوذا على حساب أميركا.

نعم، لم تكن النظريات الأميركية السابقة مخطئة إلى حد يدفعني الى القول إن نظريات القرن الأميركي لم تكن جديرةً بالاهتمام، وإن واشنطن بنت حساباتها على معطيات لم تمكنها من الإبقاء على قرنها، فواشنطن لا تزال تؤثر على مفاصل هذا النظام، ولا يمكن أن يحصل شيء على الساحة السياسية الدولية وفي مطلق الجغرافيا السياسية لبلدان هذا النظام دون موافقتها. ولكن الهيمنة الأميركية المتفردة لم تعد ممكنة كما يخال البعض، لا سيما أننا نرى الإخفاقات المتعددة للإدارات الأميركية منذ حرب العراق 2003 مروراً بالربيع العربي فالحرب على سوريا، وصولاً إلى الانسحاب من أفغانستان. وما يحصل اليوم من أزمات شرق أوسطية ما هو إلا دلائل على إدارة اللعبة التي ما زالت واشنطن تسجل فيها الأهداف دون أن تمنع شباكها من الاهتزاز.

لقد تغيرت نظرة الغرب وخاصة نظرة النخب الأميركية في مراكز الدراسات والجامعات والصحف للأحادية القطبية، حيث بات الباحثون الأميركيون يرون أنه لم يعد هناك مكان للأحادية وأن النظام الدولي تحول نحو التعددية، فالسياسة العالمية، والجغرافيا السياسية، أصبحت بنظرهم مكرسة لموضوع تعدد الأقطاب. وتقول إليزابيث ديكنسون بمقال لها في مجلة “السياسة الخارجية”: “لقد أصبح العالم متعدد الأقطاب حقيقة عالمية، اعترف بأنها شبه مؤكدة لا تقل عن سلطة من مجتمع الاستخبارات الأمريكي”.

لكن جزءا من الأميركيين ينظرون بشكل مخالف لما ينظر اليه فريق آخر من المنظرين، فالتحول لديهم من الأحادية إلى التعددية، يرون من خلاله أن العالم متعدد الأقطاب هو عالم الإدارة فيه لأكثر من طرف، خصوصاً في ظل المخاوف الأمريكية من الصعود الصيني، وعلاوة على ذلك، لا توجد أيديولوجيا عامة ومتماسكة قادرة على توحيد جزء كبير من البشرية في معارضة إيديولوجية صعبة لأيديولوجيا الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية و«حقوق الإنسان»، التي تقوم عليها الولايات المتحدة الآن. ولا يمكن لروسيا الحديثة أو الصين أو الهند أو أي دولة أخرى أن تدعي أنها قطب ثان في ظل هذه الظروف.

وبالتالي، بدأ العالم يقتنع أن تعدد الأقطاب هو بديل جذري للعالم أحادي القطب، وكما يرى جيفري د. ساكس فإن الطريق الحكيم الوحيد للمضي قدماً بالنسبة للولايات المتحدة هو التعاون العالمي القوي والمفتوح، وعليه يمكنني أن أقول في هذه النقطة إن الهيمنة الأميركية قد لا تكون طويلة كما يخال البعض، لا سيما أننا نرى الإخفاقات المتعددة للإدارات الأميركية، فالحقائق التي نشهدها بشكل مستمر تجعلنا نقول إن ما يحصل في تركيبة النظام الدولي ما هو إلا مرحلة انتقالية تحمل موجات عاتية ذات خطورة شديدة على الاستقرار العالمي، ستؤدي إلى تقهقر هيمنة واشنطن التي باتت في مرحلة الشيخوخة.

ثانياً: مستقبل منطقة الشرق الأوسط

لا شك أن أحد أهم الأسباب التي زعزعت القطبية الأميركية، وبدلت صورتها في منطقة الشرق الأوسط، هو الفشل في محاربة الإرهاب، ودخول الولايات المتحدة الأميركية في حروب خاسرة في أفغانستان والعراق وسوريا، والتشوه الحاصل بالصورة الأميركية من خلال الجرائم التي ارتكبتها.
أما أحد الأسباب الهامة جداً، والتي تدفع للقول إن الولايات المتحدة الأميركية بما تشكل من قوة عظمى، لم تعد أمام ما تخسره من ملفات في مناطق عدة، قادرة على السيطرة منفردةً على هذا العالم، فقد أصبح لدول أخرى ثقلها في هذا النظام، منها روسيا والصين وإيران وغيرها، وسيشكل الانسحاب من أفغانستان أحد أهم المؤشرات لخلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن البدء بالبحث عن بديل آخر للتواجد الأمريكي.
يشير فوكوياما في مقاله إلى أن أكبر كارثة سياسية لإدارة الرئيس جو بايدن خلال الأشهر السبعة التي قضتها في الحكم هي فشلها في التخطيط بشكل يتناسب مع الانهيار السريع لأفغانستان. فإننا نرى أنه بعد عقدين من تدهور صورة أمريكا العالمية، فإن الانسحاب الكارثي من أفغانستان سيغير وجهات نظر الشرق الأوسط حول الهيمنة الأمريكية. 

سيترك الانسحاب الأمريكي فراغاً أمنياً في وسط وجنوب آسيا، وسوف يكون لزاماً على الدول المجاورة لأفغانستان التعامل معه، خاصة روسيا والصين وباكستان والهند، وسوف يكون من الصعب على واشنطن استعادة النفوذ في آسيا الوسطى.  نعم لا شك أن أحد أسباب الانسحاب من أفغانستان هو تسهيل نقل الموارد لتلبية الأولويات الأمريكية الأكثر إلحاحاً على صعيد المنطقة والعالم، وهذا ما تؤكده كاثرين ويلبارغر في منتدى سياسي افتراضي عقده معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فواشنطن اليوم تتفرغ لمواجهتها الاستراتيجية مع الصين، إلا أنها ايضاً فتحت باباً رئيسياً للصين للدخول إلى الشرق الأوسط عبر أفغانستان. 

وإذا كان الموقع الاستراتيجي لأفغانستان يحوز أهمّية كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية لناحية صراعها مع إيران وروسيا والصين، فإن خسارة هذا الموقع ستُخلّف تداعيات كبيرة ومتنوّعة على الخطط الأميركية المستقبلية في إدارة المواجهة. وفيما تجهد الولايات المتحدة للحدّ من خسائرها جرّاء الانسحاب، تستعدّ الصين بدرجة أكبر، وبعدها روسيا، للدخول سياسياً واقتصادياً إلى البلد الذي تبدو فيه طالبان متغيّرة إلى حدّ مفاجئ، ومعها إيران التي لها حدودها الجغرافية الهامة مع أفغانستان، فضلاً عن وجود صلات دينية وتاريخية بينهما.

وكما يقول كايل شيديلر، كبير باحثي مركز سياسات الأمان المختص بشؤون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب فى واشنطن، إن الانسحاب من أفغانستان يمثل ضربة كبيرة لهيبة وثقة الولايات المتحدة وحلفائها فى جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص فى الشرق الأوسط، فستحتاج الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوات لضمان أن حلفاءها لديهم القدرة والاستعداد للدفاع عن أنفسهم، والعمل على بناء تحالفات إقليمية يمكن أن تدافع عن بعضها البعض ضد أى تهديد، ولا سيما من إيران، وإلا سيكون هناك بحث عن بديل للوجود الأمريكي. نعم لن يكون ملء الفراغ هذا يسيراً، حيث إن روسيا لا تستطيع التواجد إلا عسكرياً، والصين ليست قادرة إلا على التواجد الاقتصادي في الوقت الراهن، فيما أن محور المقاومة عبر إيران فتح ذراعيه لدول المنطقة من أجل التعاون غير أن بعض دول المنطقة ترفض ذلك، بينما يحاول أردوغان حجز مقعد إقليمي متقدم لتركيا مستفيداً من الأزمات التي تضرب المنطقة بشكل مستمر. والأخطر من ذلك، هو ما يشير إليه الباحث هارون زيلين في معهد واشنطن إلى خطورة الانسحاب على الشرق الأوسط، حيث سيستفيد تنظيم “داعش” من ذلك، إذ تحاول “داعش” أن تقدم نفسها بصورة “الدولة الإسلامية الأفغانية”، فيما أصبح تنظيم “القاعدة” في وضعٍ يخوّله إعادة تكوين نفسه، كل ذلك يبين أن المنطقة قادمة على تموضعات جديدة، وعلى مرحلة انتقالية كبيرة لملء الفراغ الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي.

لذلك فإن كل ما قدمناه سالفاً، يدفعنا إلى القول بضرورة أن تصدق أميركا وأدواتها، لحقيقة أن الهيمنة الأميركية لم تعد هيمنة قرنية، فالأزمات العالمية والمؤشرات التي بين أيدينا تظهر أن هيمنة واشنطن باتت في مرحلة الشيخوخة، وستتفرغ في المستقبل إلى أزماتها الداخلية، فيما الأوروبيون سوف يبحثون عن أمن ذاتي خاص بمعزل عن حلف الناتو، فيما أن روسيا سيكون لها السهم كبير ونصيب وافر في المشاركة بإدارة لعبة السياسة الدولية، إلى جانب التنين الصيني الذي سيشكل الاقتصاد الأقوى، مع الاعتبار الوجودي الأكثر واقعية لمحور المقاومة الذي غير المعادلات في الشرق الأوسط منذ عام 2000، والذي بدأ يطرح نفسه شيئاً فشيئاً كبديل للهيمنة في منطقة الشرق الأوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الأمر بحاجة الى المزيد من النقاش في المستقبل.