خاص العهد
لا يختلف عاقلان على أنّ مشاهد الإحتكارات في مختلف الأراضي اللبنانية ما كانت لتكون لولا التساهل الرسمي مع المحتكرين. التعاطي الرسمي يجب أن يكون أكثر “حزمًا” حتى يُصبح فعل الإحتكار جريمة. جريمة بكل المفاهيم الأخلاقية والقانونية والشعبية. دعوة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله لزج المحتكرين في السجون تأكيد على حجم الأذى الناتج عن هذه الجريمة. ماذا يعني أن يُحرم الأطفال الرضّع من الحليب، فيما تُكدّس الصناديق منها في المستودعات؟. ماذا يعني أن يُفتّش المريض على الدواء “بالسراج والفتيلة” فيما كميات هائلة من الأدوية تُخزّن في المستودعات؟ ماذا يعني أن تحترق أعصاب المواطنين في طوابير البنزين فيما مئات الآلاف من الليترات مُخزّنة؟ ماذا يعني أن يموت الناس على الطرقات في حوادث متفرقة منها حادثة “التليل” بحثًا عن المواد الحيوية التي باتت نادرة؟.
أمام هذا الواقع، لماذا لا يتم إنزال أقصى العقوبات بالمحتكرين ليكون كل محتكر “عبرة لمن اعتبر”؟ وما وجهة نظر القانون اللبناني من المحتكرين؟.
اسماعيل: الدستور اللبناني يمنع الإحتكار إلا بموجب قانون
الخبير المتخصّص في القانون الدستوري الدكتور عصام اسماعيل يوضح في حديث لموقع “العهد” الإخباري أنّ الدستور اللبناني يمنع الإحتكار إلا اذا كان هناك قانون يجيز لشركة ما أن تحتكر نوعًا معينًا من البضائع كشركة “الريجي” التي يناط بها “إدارة حصر التبغ والتنباك”. يُفصّل اسماعيل لدى الحديث عن النصوص القانونية، فيذكر منها العامة مشيرًا الى المرسوم الإشتراعي رقم 32/67 الذي أدرج تحت عنوان “مكافحة الإحتكار والغلاء”، والذي عرّف في المادة الأولى منه الإحتكار على أنه:
– كل اتفاق أو تكتل يرمي للحد من المنافسة في إنتاج السلع أو مشتراها او استيرادها او تصريفها في لبنان ويكون من شأنه الحيلولة دون تخفيض أثمانها أو تسهيل ارتفاع تلك الأثمان ارتفاعًا مصطنعا.
– كل اتفاق أو تكتل يتناول الخدمات قصد رفع مقابلها للغاية نفسها.
– كل عمل يرمي للسيطرة على السوق بتجميع المواد أو المنتجات قصد رفع قيمتها لجني ربح لا يكون نتيجة طبيعية لناموس العرض والطلب.
كما يلفت اسماعيل الى أنّ بعض القوانين تحتوي على نصوص خاصة تمنع الإحتكار كقانون الصيدلي 367/94 الذي يتحدث في مواده عن الإحتكار لافتًا الى إنزال العقوبات بحق كل صيدلية أو مستودع أو مصنع أو مستورد أو وكيل يمتنع عن بيع الأدوية ويقفل محله دون إذن من وزارة الصحة التي لها حق مصادرة الأدوية موضوع الإحتكار.
ويذكر اسماعيل ما ورد في المرسوم الاشتراعي رقم 73 الصادر بتاريخ 9/9/1983 والذي يتحدّث في أحد أبوابه عن “الاحتكار والمضاربة غير المشروعة”، اذ تنص المادة 16 منه على أنه” يرتكب جرم المضاربة غير المشروعة، كل من سبّب أو حاول أن يسبب ارتفاعًا أو هبوطًا مصطنعًا في أسعار المواد والسلع والحاصلات أو غيرها، أو في المستندات أو الأسهم العامة أو الخاصة بإتيانه بنفسه أو بالواسطة”. ويشير القانون أيضًا الى من يذيع أخبارًا كاذبة أو غير صحيحة بين الجمهور، ويعرض بضاعة في السوق لتشويش الأسعار أو إغراء البائعين بأرباح تزيد عن الأرباح القانونية.
وبحسب اسماعيل، أُدرج في جلسة لمجلس النواب عقدت بتاريخ 27 كانون الثاني 2004 مشروعا لإلغاء الوكالات الحصرية، لكنه أفشل بتوقيع النواب الذين لم يصوتوا عليه.
ويتطرق اسماعيل الى القانون رقم 240 الصادر في 16 تموز 2021 والذي أجاز مراقبة كل من يستفيد من الدولار المدعوم، بحيث يخضع للتدقيق الجنائي الخارجي، كما أجيز للقضاء مراقبة هذه الشركات. وعليه، يرى اسماعيل أنّه يجب أن يكون هناك ملاحقة جدية لأي محتكر في السوق. المحتكرون قلة وعليه بالإمكان مراقبة أدائهم ومتابعة ملفاتهم، وهذا الأمر يجعل لديهم خشية من التلاعب والإحتكار. برأي اسماعيل، المصادرة أهم من المعاقبة، فالمطلوب أن تعمل الضابطة الإدارية لمنع الإحتكار والغلاء وسط غياب كلي لوزارة الإقتصاد وللإدارات المعنية بالمراقبة.
الدرويش: الإحتكار في القانون اللبناني جنحة وليس جناية تستوجب التوقيف الإحتياطي
أمين سرّ جمعية حماية المستهلك المحامي محمد الدرويش يأسف لأنّ معظم القوانين في لبنان تسير وفقًا لنصوص قانونية قديمة بحيث لم يتم تطوير الآليات القانونية لتواكب العصر، فالمرسوم الاشتراعي المتعلق بقانون
الإحتكار يبين أن الإحتكار هو جنحة وليس جناية تستوجب التوقيف الاحتياطي كما في الجنايات. وفق الدرويش، كان الأجدر بمجلس النواب الاجتماع لتعديل القانون وتشديد العقوبة بحق المحتكرين خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، فالتجار يحتكرون المواد الأساسية كالأدوية والمحروقات لأنهم يعرفون أن لا عقوبات رادعة بحقهم.
لا عقوبات جدية على المحتكرين
وفي حديث لموقع “العهد” الإخباري، يتطرّق الدرويش الى القوانين في أوروبا وأميركا، موضحًا أنها تقارب الإحتكار على أنّه جناية تستوجب العقوبة المشددة. القانون الأوروبي يشدّد العقوبات على الاحتكار، فعلى سبيل المثال جرى تغريم “غوغل” بمليار دولار في أوروبا العام الماضي فقط بجرم الإحتكار. الأمر ذاته ينطبق على “مايكروسوفت” التي جرى تغريمها بما يعادل 600 مليون دولار بتهمة احتكار برامج الكمبيوتر. وفق الدرويش، ثمّة قوانين رادعة بينما في لبنان تتراوح العقوبات بين الـ60 والمئة مليون ليرة، وعليه تستخف الشركات التي تحتكر المواد بالضريبة التي لا تساوي الكثير من نسبة أرباحها ما يعني عمليًا أن لا عقوبات جدية على المحتكرين.
من يوقف أدوية أساسية تؤدي الى موت انسان يجب أن يحاكم بجرائم قتل
برأي الدرويش، يجب توقيف ومحاكمة كل شخص يحتكر دواء مما يؤدي الى قتل إنسان بجريمة قتل إنسان مقصود لأنّ القانون اللبناني يعرّف جريمة القتل غير المقصود بأنها جريمة تتسبب بموت إنسان عن إهمال أو قلة اكتراث أو عدم مراعاة القوانين ويعاقب مرتكبها بالسجن من 6 أشهر الى 3 سنوات. بهذه الحالة يرى الدرويش أن من يوقف أدوية أساسية تؤدي الى موت انسان كأدوية السرطان والضغط يجب أن يحاكم بجرائم قتل.
أما لجهة الوكالات الحصرية، فيقول الدرويش:” للأسف لا يزال القانون اللبناني يحمي الوكلاء الحصريين في لبنان باستثناء المواد الغذائية الأساسية منها ولكن بقية المواد لا حرية لاستيرادها، والكثير من الشركات الأجنبية يترددون في تعيين وكلاء في لبنان نظرًا للحماية التي يحصل عليها الوكيل الحصري وعدم إمكانية عزله وبالتالي فإنّ نفس الشركات هم وكلاء للمواد منذ 50 عامًا”.
عجاقة: العدو الأول للاقتصاد الحر هو الاحتكار
الخبير الإقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة يُشدّد في حديث لموقع “العهد” الإخباري على أنّ العدو الأول للاقتصاد الحر هو الاحتكار. يستشهد عجاقة بكلام أب الاقتصاد الحر آدم سميث الذي دعا فيه الى ترك المجال للتنافسية. وفق المتحدّث، لبنان بلد الإحتكار لأنه يزعزع قواعد الاقتصاد الحر ويعمل على خلق تضخم مصطنع نظرا للاحتكار الذي يطبقه التجار بذريعة “استبدال الكلفة” التي وافق عليها وزير الاقتصاد.
ويلفت عجاقة الى أنّ المادة 14 من المرسوم الاشتراعي 73/83 حددت الاحتكار بأنه اتفاق يهدف الى الحد من المنافسة ويجعل الأسعار ترتفع ارتفاعا مصطنعا مع وضع عوائق كي لا تنخفض الأسعار، كما عرّفه بأنه اتفاق بين التجار للمحافظة على مستوى أسعار عالية، وقد ورد في هذا السياق من يعمل على تخبئة البضائع لتختفي من السوق كي يرتفع سعرها. ووفق عجاقة، طلب القانون اللبناني والمرسوم الاشتراعي من القضاء إنزال عقوبة بحق من يخالف المادة 14 تتمثّل بغرامة مالية تزيد بنسبة 10 مرات عن الحدود الدنيا والقصوى للغرامات عملًا بالقانون 490/1996 وبالسجن من ثلاثة أيام حتى شهر أو بإحدى هاتين العقوبات، وعند التكرار تضاعف العقوبة.
التجار في لبنان يمارسون مختلف أنواع الاحتكارات
وفيما يلفت عجاقة الى أنّ التجار في لبنان يمارسون مختلف أنواع الاحتكارات الوادرة في النصوص القانونية، يطرح وجهة نظره للحل فيشدّد في المرحلة الأولى على ضرورة ضرب السوق السوداء بكل أشكالها عبر ضرب تطبيقات الدولار ومحاربة السوق السوداء للبضائع والخدمات بمعنى أن الأجهزة الأمنية يجب أن تضع كل محتكر أمام القضاء، كما لا بد من تحرير الإستيراد، ووقف التهريب بكل أشكاله. وفي مرحلة لاحقة، يطالب عجاقة بضرورة إقرار قانون التنافسية ووضع معيار يحدد بموجبه الإحتكار. على سبيل المثال، يتم وضع معايير للنسبة السكانية التي يجب أن تغطيها كل “سوبرماركت” وإجبارها على بيع موادها لـ”سوبرماركت” أخرى في حال تخطت النسبة الحد المسموح به.
يجب أن تحول عملية الاحتكار لجريمة
ويوضح عجاقة أنّ ثمة 80 مستورد في لبنان لكنّ العشرات منهم فقط يسيطرون على السوق بشكل فعلي، مكررا أنّ الاحتكار هو العدو الأول للاقتصادات الحرة وبالتالي يجب أن تحول عملية الاحتكار لجريمة، ولا يجب أن يفلت أحد من العقاب، بل يجب أن يمثل كل المحتكرين أمام القضاء.