بالفيديوهات والصور: ما لم يروَ عن انفجار بيروت.. ليلة الدماء والدمار.. توثيق للحظات الرعب التي واكبت جميع من عايش الانفجار..

عصر الرابع من آب الماضي، الساعة السادسة مساء بتوقيت بيروت، شعرت من منزلي بمنطقة الأونيسكو، بما يشبه الهزّة الأرضية، تبعها بعد بضع ثوان دوي انفجار مرعب أعادني بالذاكرة إلى سيناريوهات حرب تموز العام ٢٠٠٦ مع إسرائيل والانفجار الذي أدى الى اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري العام ٢٠٠٥، وذلك قبل انتشار المشاهد الأولية للانفجار ووصول مزيد من المعلومات بخصوص ما حصل.
 
إلى محيط المرفأ
بعد بضع دقائق من الإنفجار المشؤوم انتشرت دعوات عاجلة للتبرع بالدم وانتشال العالقين من تحت الركام، توجّهت سريعاً إلى محيط المرفأ، وفي طريقي إلى الجميزة، المنطقة الأقرب إلى المرفأ، أخبرتني والدتي بأن أخي من بين المصابين كونه يعمل في وسط المدينة، الوسط الذي يبعد بضع أمتار عن المرفأ فقط، لكن ولله الحمد كانت اصابته متوسطة فاخترت الاكمال باتجاه المناطق الأكثر تضرراً.
 
مرعبة هي المشاهد الأولى لكل من اعتاد زيارة الجميزة بقصد السهر وقضاء أوقات ممتعة مع الأصدقاء، كانت المنطقة مدفونة تحت الركام، التراب والزجاج والحطام يملأ طريقها الأساسي، المنازل التراثية والقديمة من حولك مهشّمة بالكامل، صراخ من كل بيت وطريق فرعي، عجوز ملطخة بالدماء تشتكي سرقة أموالها لأحد العسكريين بعد تضرر منزلها، شبّان ينقلون الجرحى وآخرون يحاولون إبعاد الحجارة والركام عن الطريق إفساحاً في المجال لمرور سيارات الإسعاف، فوضى عارمة والغبار يملأ المكان ويعيق الرؤية…
يزداد المشهد مأساويّةً كلّما اقتربت من منطقة مار مخايل المطلّة مباشرة على المرفأ، بعض شوارعها معزولة عن الطريق الأساسي بفعل الدمار، أما الطريق العام المطل على المرفأ فكان أشبه بساحة حرب انتهت لتوّها، سيارات محطمة دفعها دوي الانفجار الى الرصيف فاستقرّت هناك رأسا على عقب وخلفها نيران شديدة تخرج من صوامع اهراءات المرفأ، تسير باتجاه احد المباني فتشاهد جثّة يهمّ الجيش اللبناني في تغطيتها تمهيداً لنقلها.
 
إلى مستشفى الجعيتاوي وهو الأقرب، توجهت للتبرع بالدم والمساعدة وتوثيق ما يحصل هناك بحكم عملي الصحافي. كان المبنى متضرراً بشدّة، مصاعده معطّلة ونوافذه محطّمة. غصّ المستشفى بمئات الجرحى فتحوّل مدخله إلى مستشفى ميداني لعلاج العشرات. في تلك الليلة يفرض عليك الواجب أن تضع الكاميرا جانباً وتنقل الجرحى، أحد المرضى لم يكن لديه الوقت للخروج وفعل ذلك، كان عليك أن تساعد في إزالة الحجارة والزجاج من مدخل الطوارئ حتى يتمكن الجميع من التنقل بسهولة، كانت ليلة الدمار والدماء.
صباح بيروت
مع أوّل إشراقة ما بعد الإنفجار، كان المشهد أكثر قساوة، لم أتعرّف إلى الشوارع التي كنت وأصدقائي قد حفظناها عن ظهر قلب، المقاهي والمكاتب والحانات والمتاجر كلها محطّمة بالكامل، أمسك بيدي أحد سكان المنطقة وقال لي وهو يبكي: “طلاع صوّر فوق ببيتي، تعا شوف شو صار فوق”.. أصيب بعض أفراد عائلته ونقلو إلى المستشفى للعلاج، أمّا العاملة المنزلية فقد نجت بأعجوبة. خلال التقاط فيديو للخراب، أطلّت عجوز من شرفة منزلها المواجهة وهي تصرخ “خربتولنا بيتنا.. قدّم استقالتك..”. وكانت تقصد بذلك رئيس الجمهورية ميشال عون، بحسب ما اوضحت في مقابلة أجريتها معها في اليوم الرابع من يوم الإنفجار.
لودي، عجوز تسكن في منطقة الجميزة بمفردها بعد وفاة زوجها، منزلها يفصله بناء حديث من الزجاج عن مكان الإنفجار: “كل ما حدا زارني بيسألني كيف بعدك عايشة”.
بهذه الكلمات تحاول لودي اختصار المشهد الذي ترك آثاره على وجهها، وتضيف: “لصار مش انفجار عادي، هيدي قنبلة نووية”، ثم تسترسل بالحديث وهي ترجف، علّها تخرج قليلاً مما مرّت به: “أنا يا إبني ضلّيت عُمر وأنا ظبّط بهلبيت تا عيش آخر سنتين بحياتي مرتاحة.. وهلئ ما ضل شي..”.
لودي وغيرها من سكان المنطقة، كان عليهم مجبرين الوقوف على أقدامهم مجدداً، نفض الغبار عن أنفسهم، إزالة الركام والزجاج مع من قرر التطوع لمساعدتهم من أبناء وطنهم ومن بلدان أخرى، لأن دولتهم كانت غائبة وظهرت فجأة على هيئة قنبلة فساد ذرّية، أوصلت إلى ما أوصل إليه مساء الرابع من آب، وأوقعت عشرات الشهداء وآلاف الجرحى ثم غابت من جديد.
الأضرار كبيرة، وذاكرة أبناء بيروت تهشّمت كما الأماكن التي اعتادوا الهروب إليها من أيام عملهم المنهكة، لكن من نجى بجسده منّا لن ينجو من الآثار النفسية للثواني والدقائق الأولى للانفجار، والتي لا زالت ترافقنا عند كل صوت ولو صغير يخرق هدوء أوقاتنا، عند كل صورة وفيديو وخبر عن ليلة الدماء والدمار تلك.
بعدها مش عم تتقبل شو صار، كانت عم ترجف هيي وعم تحكيني! ساكنة لوحدها من زمان بعد وفاة زوجها.. بيتها مش بيت