المصدر : جريدة الأخبار
أزمة “البنزين” ستُحل جزئياً على ما أعلن مصرف لبنان. فهو قرر فتح اعتمادات جديدة، لكنه كان واضحاً في التأكيد أن ذلك سيكون مؤقتاً. أما الحل الجذري فيفترض أن يأتي من الحكومة. لكنّ أحداً لا يضمن أن تعود طوابير البنزين مجدداً، في ظل إصرار كل الجهات على عدم إنهاء معاناة اللبنانيين، وترك مصرف لبنان والشركات تتحكّم بمصيرهم
الذلّ الذي يعيشه الناس لملء خزّانات سياراتهم بالوقود بعشرين ألف ليرة أو ثلاثين ألفاً صار جزءاً روتينياً من يوميات الحياة في لبنان. تخلى الجميع عن المطالبة بحقوقه الاجتماعية والسياسية، لتتحول الأولوية لإيجاد البنزين والمازوت والدواء والطحين والماء والكهرباء. لا طموح بالتغيير ولا بحياة أفضل. المطلوب فقط العيش. وعلى ما يبدو، ربطاً بأداء السلطة وبتعاملها مع الأزمات المتلاحقة، فقد أدركت أن أحداً لن ينتفض في وجهها ليطالب حتى بحياة عادية. لهذا صار يُجاهر البعض بأن الانتخابات المقبلة ستكون «الأرخص».
أزمة البنزين، مرّ عليها أسبوعان قبل أن يخرج مصرف لبنان ببيان أمس يكشف فيه أنه لم يكن يدرك أن في البلد أزمة محروقات خانقة! ولولا «المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام بخصوص أزمة المحروقات وطوابير السيارات أمام المحطات» لما علم بها. وبناءً عليه، عُقد اجتماع بين حاكم المصرف المركزي ووزير الطاقة، أمس، قرر المصرف المركزي إثره توجيه إنذار أخير إلى السلطة: إذا لم تتخذ التدابير اللازمة فإنه لن يتحمّل مسؤولية وقف الدعم. وهو قال إنه «سيُتابع منح أذونات لفتح اعتمادات استيراد محروقات شرط عدم المس بالتوظيفات الإلزامية» لديه، داعياً المسؤولين إلى اتخاذ التدابير اللازمة كون ذلك «ليس من صلاحيته».
وإلى حين لمس انعكاسات ذلك على الأرض، كان الناس يتهافتون على محطات البنزين، بعدما سمعوا ما تردد عن أن المخزون المتوفّر لن يكفي إلا لأيام. وحتى المصرف المركزي كان واضحاً بإعلانه أنه ينتظر من الحكومة أن تُبادر حتى لا يضطر مجدداً إلى وقف فتح الاعتمادات. وبالتالي، حتى لو صار متوقعاً تزويد السوق بالمحروقات، لكن في النهاية، إن لم يتم الاتفاق على مخرج ما، فإن الأزمة ستتجدّد. فرياض سلامة سبق أن أبلغ المعنيين أنه لن يكون بمقدوره الاستمرار في دعم المحروقات بعد نهاية أيار. وهو بدأ عملياً في تنفيذ الترشيد قبل ذلك بكثير. فبعدما كان يفتح أربعة اعتمادات شهرياً خفّض العدد إلى اعتماد واحد، قبل أن يتوقف عن ذلك تماماً الأسبوع الماضي. ولذلك، فإن الشركات لم تفرغ الشحنات التي وصلت إلى الشاطئ اللبناني في انتظار معرفة ما إذا كانت الاعتمادات ستُفتح أم لا. لأنها، على ما تقول مصادرها، لا يمكنها أن تفرّغ الحمولة وتبيعها على أساس السعر الرسمي المحدّد والمربوط بدعم مصرف لبنان لـ90 في المئة من ثمن البضاعة، ثم يرفض المصرف من بعدها فتح الاعتمادات.
تؤكد المصادر أن إحدى الشركات عرضت على وزارة الطاقة السماح لها بإدخال شحنة من البنزين 98 أوكتان لبيعها وفق سعر السوق، إلا أن الوزارة رفضت الأمر، على اعتبار أن ذلك سيفتح الباب أمام كثير من الفوضى، وحتى الغش، حيث يُخلط البنزين المدعوم بغير المدعوم ويُباع وفق سعر السوق.
مصرف لبنان: إجراءات ترشيد الدعم ليست من صلاحيّتي
عادة، لا يعني تجفيف السوق من أي مادة مدعومة سوى أمر واحد: التمهيد لرفع الدعم. فإذا بقيت الخزانات ممتلئة لن يضمن أحد عدم بيعها على السعر الجديد. لكنّ الحكومة، لم تسع إلى تخفيف معاناة الناس، وحسم مسألة ترشيد الدعم مبكراً، كي يتسنّى للناس الاستعداد لهذه الخطوة أو التأقلم معها. في لبنان، لا بد من سلوك الدرب الأصعب. هم يريدون أن يتحوّل رفع الدعم إلى مطلب شعبي! وهو ما بدأ يحصل بالفعل، حيث يطالب البعض برفع الدعم لإنهاء حالة الذل التي يعيشونها. أضف أن التجارة غير الشرعية للوقود، عزّزت من هذا المطلب، على اعتبار أن البعض بدأ بالفعل شراء البنزين، وقبله المازوت، بسعر مضخّم. فبائعو الغالونات، يتقاضون ضعف الثمن الرسمي للصفيحة، بالتواطؤ مع أصحاب محطات لا يبخلون عليهم بالبنزين، طالما يؤدي إلى أرباح مضاعفة. والأمر نفسه يحصل مع بيع المازوت، لكنّ الحجّة هنا تكون كلفة النقل إلى المنازل. أحد العاملين في القطاع يؤكد أن الشركات ليست بعيدة عن التهريب والبيع في السوق السوداء. ويقول إنه إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تغضّ النظر عن التأخير في فتح الاعتمادات، والذي يُكلّفها عن كل يوم تأخير في تفريغ الشحنات المتوقفة في مرفأ بيروت نحو 20 ألف دولار. مصادر وزارة الطاقة تعيد التذكير بأن سلطتها تنتهي عند التأكد من مخزون الخزانات، لكن كيف يتم توزيع البضاعة، وكيف تخزّن في المحطات أو غيرها، فذلك من اختصاص وزارة الاقتصاد.
أمام هذا الوضع، ماذا تنتظر السلطة لحسم مسألة ترشيد الدعم؟ وإذا كان سبق لرئيس الحكومة أن أكد أن لا ترشيد قبل إقرار البطاقة، فلماذا لم تُقر البطاقة بعد في ظل تحول الترشيد إلى أمر واقع في أكثر من قطاع؟ ولماذا يتباطأ مجلس النواب في البدء بمناقشة مشروع القانون الخاص بالبطاقة التمويلية، والذي انضم إليه اقتراح قانون مُعدّ من «تكتل لبنان القوي»؟ بغضّ النظر عن الإجابة، فقد بدأ سلامة تنفيذ أجندته. وهو قبل إقرار أي قانون بدأ إجراءات قاسية لتخفيف الدعم، إلا إذا حصل على تغطية قانونية لاستعمال الاحتياطي كما حصل في مسألة تغطية الاعتماد المخصص للكهرباء. لكن مع ذلك، فإن بيان المصرف المركزي يؤكد أنه سيساهم في حل الأزمة مؤقتاً، من دون أن يضمن عدم تجددها، طالما أن الحلّ الجذري لم يظهر بعد.
يطرح عضو نقابة أصحاب المحطات جورج البراكس إشكالية تزيد من تأثيرات أزمة شحّ البنزين. فإضافة إلى المعاناة التي تفرضها على المقيمين، تُهدد أزمة البنزين بإلغاء موسم الاصطياف، الذي يتوقع أن يكون واعداً. علماً أنه يعوّل على المغتربين لإدخال العملة الصعبة وإنعاش الاقتصاد المنكمش منذ أكثر من سنة. لذلك، توجّه البراكس إلى مصرف لبنان بالقول: «من صرف عشرات مليارات الدولارات من أموال المودعين يستطيع صرف بضعة ملايين لإنقاذ فصل الصيف، خاصة أنه سيُعيد إليه أضعاف ما سيصرفه من دولارات». وقدّم البراكس ما وصفه بـ«خارطة طريق لرفع الدعم»، بالتوازي مع إقرار البطاقة التمويلية، بحيث يرفع الدعم تدريجياً بنسبة 22 في المئة شهرياً على فترة أربعة أشهر.
لكن في المقابل، سبق أن سعت جهات عدة إلى طرح أفكار تتعلق بترشيد الدعم، إلا أن مصرف لبنان لم يتجاوب. آخر هذه الاقتراحات قدّمه «تكتل لبنان القوي»، بإعلانه عن خطة للترشيد، تنص على تخفيض الدعم على المازوت والبنزين من 90 إلى 60 في المئة. أما أول خطة رسمية قُدمت، فقدّمتها وزارة الطاقة في اجتماعات اللجنة الوزارية لرفع الدعم، لكنّ الاقتراح اكتفى بوضع فرضيات، على اعتبار أن الوزارة ليست هي من سترفع الدعم، بل المطلوب من مصرف لبنان أن يحدد كم يحجز من الأموال من أجل دعم هذه المواد، ليبنى على الشيء مقتضاه.
مصرف لبنان: المشكلة في التهريب والتخزين
بيان مصرف لبنان سعى إلى رد التهمة عنه، من خلال الإشارة إلى أن تقليص فتح الاعتمادات ليس هو السبب في أزمة المحروقات، بل إن السبب هو التخزين والتهريب. ولتأكيد حجته، نقل عن وزير الطاقة قوله إن كميات المازوت والبنزين والغاز المنزلي التي تم استيرادها خلال عام 2021 وحتى تاريخه تمثل زيادة بحدود 10 في المئة عن الكميات المستوردة خلال الفترة نفسها من عام 2019، علماً أن الوضع كان طبيعياً وحركة الاقتصاد بشكل عام كانت أفضل حالاً من هذا العام. وأشار البيان إلى أن وزير الطاقة أكّد وجود 66 مليون ليتر مازوت، بالإضافة إلى الكميات المتوفرة لدى المحطات وغير المحددة، وهي تكفي السوق اللبناني لمدة تُراوح بين 10 أيام وأسبوعين.
وكان لافتاً تشكيك المصرف المركزي في عمل شركة «مدكو» بشكل خاص، إذ أشار إلى أنها حصلت على موافقة مصرف لبنان للاعتمادات المقدمة من قبل مصرفها منذ أكثر من شهرين من أجل استيراد شحنتَي محروقات بقيمة إجمالية قدرها 28 مليون دولار، ولم يتم إفراغ الكميات حتى تاريخه.