جاء في صحيفة الأخبار في مقال للكاتب سعد عمر عميص:
لا يغيب عن أكثر المتابعين لجائحة «كورونا» أن الإصابات المثبتة مَخبرياً عبر فحص «PCR»، والتي تبلغ حوالي نصف مليون إصابة في لبنان، لا تعكس الانتشار الحقيقي للفيروس على أرض الواقع. من هنا، يأتي التقرير الأخير لمعهد الصحة في جامعة واشنطن «IHME» ليقدّر الإصابة الفعلية في لبنان بنسبة 52 % من مجمل السكان. أي بالإضافة إلى الحالات المثبتة، فإن أربعة من كل خمسة أشخاص أصيبوا بـ«كورونا» في لبنان لم يشعروا بعوارضها أو يبلغوا عن إصابتهم. ولكن، هل سيغيّر هذا التقدير أسلوب الجهات المسؤولة في مواجهة الجائحة؟
يعتمد النموذج الوبائي الذي استند إليه (استندت المعطيات الوبائية لنموذج IHME إلى موقع Our World in Data) هذا التقدير على معطيات الحالات والوفيات المثبتة والفحوصات، بالإضافة إلى اعتبارات الكثافة السكانية وسياسات التباعد الاجتماعي واستخدام الكمامات ورصد حركة النقل والتأثير الموسمي للالتهابات الرئوية وغيرها. ومع ذلك، فقد تعرّض النموذج لبعض الانتقادات خصوصاً عند بداية الجائحة. إلا أن تقديره للإصابات في لبنان يوافق النسبة التي رجحتها «الهيئة الصحية الإسلامية» في دراستها نهاية العام الفائت، والتي بُنيت على فحص نسبة الأجسام المضادة المناعية لدى متطوعين في المحافظات كافة. خلصت الدراسة إلى أن الإصابات الفعلية أكثر بسبع مرات من المثبتة، بل قَدَّر رئيس الهيئة أن تكون نسبة المناعة المجتمعية قد بلغت 35% من عدد السكان منذ ثلاثة أشهر.
ومن المرجّح أن الإصابات الفعلية تفوق النصف، إذ تنخفض نسبة الأجسام المضادة في الدم تدريجياً بعد الإصابة، وتغيب كلّياً لدى عدد كبير ممن لم تظهر عليهم العوارض أو ذوي العوارض الطفيفة. في المقابل، يظهر لدى هؤلاء ردة فعل مناعية للخلايا التائية، وهي المسؤولة عن تخفيف حدة الإصابات خصوصاً ضد النسخات المتحورة للفيروس. مع العلم أن المناعة الطبيعية المكتسبة من الإصابة تستمر لفترة لا تقل عن ثمانية أشهر وقد تمتد لسنوات (نحيل القارئ في هذا الصدد إلى أبحاث د. أليساندرو سيتي ود. شاين كروتي في معهد «لاهويا» لعلم المناعة في كاليفورنيا).
ولكن ماذا عن النصف الآخر؟ أليسوا عرضة للإصابة تماماً كما كانوا منذ عام مضى؟ ليس إن كان أغلب مَن لم تثبت إصابتهم دون 19 سنة، إذ إن صغار السن والمراهقين هم أقل تمثيلاً بحوالي الثلثين من سائر الفئات العمرية للإصابات المثبتة مَخبرياً. وهذا الفرق، ما لم يكن ناتجاً عن عدول أهالي هؤلاء عن التثبّت من إصابتهم، يُفسّر بكونهم أقل عرضة للإصابة بحوالي النصف من البالغين وأقل عرضة لظهور عوارض شديدة إن أُصيبوا بالفيروس. بل صار من المعلوم تماماً أن الإصابة بالانفلونزا الموسمية في حق هذه الفئة توازي إصابتهم بفيروس «كورونا».
ولعل جميع ما تقدّم، أي تحقّق المناعة المجتمعية ضد «كورونا»، هو الذي يفسّر التحسّن الباهر في لبنان على صعيد المؤشرات الوبائية كافة خلال الشهر الفائت. وليس ذاك لعمل اللقاحات التي ما زالت نسبة من تلقى جرعة واحدة منها أقل من 7% من السكان. وأمّا عن عتبة مناعة القطيع التي اشتهر أنها تزيد على 70% من الناس، فهي – إن صَحَّت بهذا التقدير – مُحققة إذا اعتبرنا الدور البارز للخلايا التائية في تحقيق المناعة ضد «كورونا» والتي لا يتوفر الفحص التجاري لكشف وجودها حتى اليوم.