موقع بلدتي
يهوى القلم لو يبتلي بغير رثائه, وتهوى الأرض لو ضمت غيره, عارك الموت خمس وسبعون يوما بجسد ضعيف حتى انتصر عليه في النهاية.
وجهه من صباحات أيلول أشرق يقفز من يوم الى يوم, يبحث عن جنون, عن صدف, عن مواقف, وعن معارك العمل, والمجهول. رافق الحب المجنون, والحب الموزون بأفضل القوافي, وتمشى خلف حدود الوطن طالبا لمغامرة جديدة. لم يقبل يوما أن يكون اي شيء يسند على الرف, ففاقت كل الإبداعات أحلامه. فتى عربي صبغت أيامه زمانات الشرق في عصر المتاهات والمشقات.
عاش سيدا ورحل أميرا, زفوا عرسه نحو المقبرة, وما أحلاه عرسا, خلطوا لحمه مع التراب, ما أصعب اللحظات حين حملوه على الأكتاف وطمعوا جميعا بسؤاله: لما رحلت؟ أين الجسد الذي يعانق الشمس بهاء؟ أين الحياة في وجه الحياة؟ أين وميض السيف الذي يرهق المصاعب؟ الا أنه لم يجب.
وحبيبا عاد بروحه الى الله يلف أطرافنا بالحزن ويترك فينا عطره الغريب, فبتنا ان ذكرناه نترحم على اسمه قبل ذكراه, ونسأل انفسنا كيف جاز الموت على شخص لم يرتو أفراح الدنيا, ولم يشبع من أحلامها؟؟!!
فأمين الذي ولد في 42 أيلول 1987 في الكويت لم تكن حياته بتلك البساطة عاد من الكويت لأول مرة عام 1990 بسبب الحرب ثم عادوا سنة 1994 وهذه الزيارة كانت الأخيرة بعدها عادوا الى لبنان للاستقرار بشكل نهائي.
هو كطفل,كان وحيدا بين بنتين المميز على قلب أهله,كونه الرجل الذي سيحمل اسم العائلة. عاش طفولة أكثر ما فيها البساطة وأكثر ما استطاع والده أن يؤمنه له من الرفاهية ثياب العيد, وزيارة أقربائه, وفي أحد تلك الزيارات من أيام طفولته بينما هو يلعب على سطح بيت جده في الخيام التفت أفعى حول قدمه ولسعته حتى سال السم في دمه ونقل على فورها الى المستشفى للمعالجة, وأنقذت حياته للمرة الأولى.
في شلة اللعب كان أمين الحاضر الأول كل يوم قبل المغيب.أكثر ما قام به,بناء خيمة متواضعة مرة على سطح عمته ومرة في جل صغير خلف المنزل ليجلس في مع أصدقائه. واكثر ما كان يكرهه العراك أثناء اللعب فينسحب على الفور ويبتعد عنهم أو يعود الى المنزل.
خلال السنة وفي موسم القمح الكثير من البيوت من أهل حارته تقوم بسلق كميات كبيرة
من القمح ويكون هذا العمل مفرحا لديه فيساعدهم بفرشه على السطح بعد أن ينضج.
أما كتلميذ تلقى علومه الاولية في المدرسة الرسمية في بلدة العباسية, وبعد نجاحه بالشهادة الثانوية “البريفيه” انتقل الى الثانوية العباسية حتى الثالث ثانوي. وفي الثانوية كان لأمين الحضور اللافت يشارك في كل الحفلات ومنتسب الى فرقة الدبكة, هذه الفرقة التي اختاره المدير من ضمنها لتكون الممثلة للثانوية في فرنسا بناء على دعوة وجهت لهم.هذا الأمر جعله يبني صداقات خارج لبنان, ووسع معارفه ,وقد كان على علاقة جيدة جدا بمدير الثانوية والكثير من الأساتذة. كما بنى علاقة وطيدة مع أحد الطلاب الفرنسيين ويدعى كيفين الذي عاد الى زيارة أمين بعد فترة في لبنان كما وقف الى جانب عائلته أثناء حرب تموز وعرض عليه مرارا وتكرارا بأن يأتي الى فرنسا مع عائلته ليكونوا بأمان الا أن الوضع الأمني الذي كان يزداد سوءا لم يسمح بذلك. ومن الجدير بالذكر أن كيفين كان سيزور أمين للمرة الثانية بعد يومين من حادثه الا أن قصة الحادث منعت ذلك, فقد كان الخبر صعبا جدا عليه.
انتسب الى الأمن العام بعد أن قبل في امتحان الدخول ونجح في امتحان الذكاء. ثم سجل في الجامعة الاسلامية في بيروت في اختصاص المحاماة ودرس على أمل أن ينال رتبة أعلى في الأمن العام اذا ما نال الشهادة.
في البداية خضع لدورة ثلاث اشهر, ثم كان يخدم يومين في بيروت ثم يعود الى منزله يومين. تقول جدته انه حينما قبل في الأمن العام لم يطمأن قلبها وعندما ذهبت اليه أثناء خضوعه للدورة تقول ان شعورا غريبا انتابها, وشيء في الصميم اخبرها أن حفيدها لن يعيش طويلا, فمحبته غريبة, وقع كلامه تصرفاته الطريفة المحببة لدى الكل, شخص اجتمعت فيه صفات الحياة, والحياة لا ترضى بحياة غيرها.
أمين بشخصيته الاجتماعية جدا المحبة للصغير قبل الكبير, المقرب من المسنين, الداعم الكبير لشباب جيله, المساعد في عمل الخير, والذي يمد يد العون لمن لا يطلب منه العون, أثر بكثير من الناس ففتح بيت أهله المتواضع للجميع لا يأكل وحده أو يسهر
وحده يقف على شرفة منزله ويبدأ بالصراخ لأحد من أقربائه أو الجيران ومن يدخل بيته يفكه أمين من قيود الرسميات فيجعله السيدوالمالك للمنزل. يهتم بضيوفه أكرم اهتمام فجدته كانت دائما تعطيه دروسا باكرام الضيف وشرف الضيافة حتى لو كان على حساب نفسه وتقول له: ان من يطرق بابك اليوم قد تطرق بابه غدا, لذا فان أصدقاءه من الصعب احصاءهم وما زادته الايام سوى لصداقات أكثر.
كان كثير التنقل خاصة بعد انتسابه للأمن العام جرب كل شيء, وخاض الكثير من التجارب والمغامرات, وتعلم دروسا لا تحصى عانى غدر الصديق وذاق طعم الوفاء, عانى مرارة الدنيا وتعلم معنى الصبر.
أحب فتاة بيروتية من نفس جامعته وتقدم لخطبتها رغم معارضة أهله لانهم رأوا أن عوده ما زال طريا, ولا من حائط يسند كتفه عليه فصحة أبيه تزداد سوءا وقدرته على العمل تقل بسبب تدمير في الخلايا العصبية فلا يستطيع مساعدته في تأمين شقة, بل على العكس عائلته كانت بحاجة اليه أكثر ومعتمدة عليه من الناحية المادية.الا انه اصر على تلك الفتاة وهي بدورها وعدته ان تقف الى جانبه وتساعده الا ان هذا الارتباط حل قبل ثلاث أشهر من الحادث الذي أدى الى وفاته, ولم يعرف السبب.
هذا لا يعني أن أمين تخلى عن عائلته, فقدم كل ما استطاع لوالده ولأمه من ماديات أو أمور مشابهة. أمين بعاطفته الرجولية كان غريب الشطل بحنانه فالأمر لا يتوقف عند والديه يلبي طلبات عماته ولو على حساب صحته, وصديق الصغير في العائلة قبل الكبير, يجمع أولاد عمه الكثر عندما يأتي من الخدمة يسهر ويلعب ويأكل معهم.
أهم ما في حياته أخته الصغيرة روان, فالكبيرة تزوجت وسافرت لتعيش مع زوجها في ألمانيا. روان المحببة جدا الى قلبه, كانت مستقبل في عينيه ويحاجج بجمالها وسلوكها أنها ستكون الأوفر حظا, وانها ستذهل الدنيا حين تكبر, وهي بدورها كانت متعلقة به لدرجة كبيرة وتنتظر أيام الخدمة حتى تنتهي كي تعود الحياة الى قلبها لأنه يشعر بألم وحدتها وعدم استمتاعها بوميات الوحدة.
أمين لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ذاق معاناة الفقر حتى ضاق به, الا ان هذا الأخير صنع منه رجلا.
فصل الصيف عنده لم يكن كباقي التلامذة للراحة والنزهات بل كان فصل العمل كي يستطيع شراء حاجياته ويقتطع نصيبا مما يحصل عليه بعمله كأجير أو بتركيب الأدوات الصحية ليعطيه لأمه. تلك النظرية البديهية والذكاء لدى أمين جعلته يتعلم المصلحة بسرعة حتى بات يتبنى ورش لحسابه.
هوايات أمين محدودة تتبلور بشيئين كانا يكفيان لإسعاده الصيد والسباحة .
أما عن أفعاله بالخير فيكفي أن أقول بأنه ساعد كثيرين في إكمال دراستهم, منهم اليائس من الناجح فبات اليوم آخر سنة في الجامعة, ومنهم لم يرد المضي قدما لأنه لا يستطيع تأمين الأقساط الجامعية فقام بحملة من أجل أن يجمع له الأقساط ويساعده بما يستطيع.
هذا الرجل الشاب الذي لم يتعيب من العمل او يشكو حال أهله بتذمر كان يشغل عقله باستمرار من اجل يتمم ولعه الأكبر بشراء شقة وانتشال أهله من تلك الحال حتى رسا به الحال على تجارة السيارات الى جانب الأمن العام والدراسة وأول سيارة بيعت هي التي كان يقودها نحو بيروت يوم الحادث. وكان أمين قد تعرض الى حادثين على الدراجة النارية ونجا من الموت أيضا بأعجوبة.
قبل ليلة الحادث كان أمين يصر على والده لأن يقبل بان يأخذ أخته روان معه فلم يقبل وذهب الى عمته يترجاه لتكلم والده يقبل أقدامها الا أنه بقي مصرا على رأيه لعل تلك الفتاة أرادت مصيرا مع أخيها فكتب لها أن تتفرج عليه يلقى مصيرها…
ذهب وحده في الصباح منتظرا أخته الآتية من السفر وبانتظار صديقه الآتي من فرنسا مبتسما للأيام القادمة الا أنه وباتجاه بيروت صدم جسده حدود الغد. حادث مؤسف آلة به الى غيبوبة دامت خمس وسبعون يوما ينازع في صمت يتكلم بلا صوت, تذوب روحه شيئا فشيئا في تكوين بات في حكم المعدوم..وبعدها… فقد الحياة…
وما يطل اليوم سوى بالمسموح, بأحلام لا نعرف ان كانت صنع ذاكرة أو رؤى حقيقية, وبات روحا تحوم حول الدار مرة في سكينة ومرة في هيئة فراشة.
ككابوس فظيع مر ذاك اليوم الذي دفن فيه. ترك في كل بيت دمعة, في كل بيت معجزة, في كل بيت ابتسامة, مصرعه حرق قلوب الكثيرين, وماتت الحياة بالنسبة للكثيرين.. رحل أمين في سفر طويل لم يتوقعه, فالأمر امر الله الذي استدعى حبيبه بعدما غيبه الموت بأقسى الآهات وشف من سنين الشباب أزكى الشباب.
