كي لا ننسى محمد عجمي 1983 – 2000

تتألق الأحلام في وجوه البراءة, وتتفكك كل رموز التعقيد في وجوه الطفولة, تُرسل في الحب أطرف الرسائل, وتشرق  في وجوهها الآف الشموس, تمر على أجسادها كل أنواع العواصف, وتختبأ بأصغر الأشجار عندما تقابلها نسمة هواء.

هي الطفولة, إن تهمس تطلي الليل بالسكون والنهار بألطف الحركات, فيصبح المر حلوا, وتستجيب بذاتك الى كل انواع الأحاسيس بأسهل الطرق, فلا يعجز الألم عن الصراخ , ولا البكاء عن العويل إن تعرف قصة محمد.

ولد محمد في 28أيار1983 في بلدة العباسية.تلقى علومه الأولية في مدرسة الجعفرية حيث كانت أمه معلمة في تلك المدرسة وكانت تحرص دائما في أن يكون الى جانبها.

بعد إتمامه الصف الأول متوسط انتقل الى الثانوية الرسمية في بلدة العباسية حتى صف “البريفيه” الا أنه لم يخضع للامتحان الرسمي في آخر السنة بسبب عارض صحي تعرض له في تلك الأثناء.

في المدرسة أذهل الأساتذة ببراءته وطريقة تبريره لتصرفاته. فكان يصر دائما على أن يساعد أصدقاءه في الإمتحانات وعندما تعاقبه المعلمة ينكر ويقنعها بدوره أن عصفورة صغيرة مرت على صديقه وأخبرته الإجابة.

علاماته في المدرسة كانت بتقدير جيد جدا, وميوله أدبية أكثر منها علمية إذ سعى الى حفظ مئات الكلمات في اللغة الإنكليزية في عمر مبكر جدا. وبالنسبة لمعلميه كما كانوا دائما يخبرون أمه أنه مفرط الذكاء الا أنه ايضا مفرط النشاط وكثير الحركة, ولديه ميول قوي للسلطوية, فيحب أن يكون قائدا, يمسك زمام الأمور يأمر أصدقاءه أثناء اللعب, خاصة ان كان الأمر متعلق بلعبة كرة القدم أو أي نوع من الرياضة. الا أنه في الوجه الآخر كان يعشق مساعدة رفاقه في أي شيء.

كان محمد عنصرا مهما في فرقة الموسيقى بكشافة الرسالة, هذا الكشاف الذي كان خطوة منه أراد أن يكتشف مكنوناتها,  فتعلم من الكشاف خير ما تعلم والتزم بخطه الناشىء, فكان يحضر الاجتماعات, ويتسلى في التعرف على أمور جديدة. 

أفضل القيم والمبادىء كانت تحرص أمه على أن يتلق أطهرها وأفضلها فتعتمد معه الصراحة وتناهه عن أي محاولة في الكذب. هذه الصراحة كانت العامل الأساسي في تقربه منها لأنه كان كثير الخجل من والده, فيطلب منها ما يريد وهي تعطيه بلا تردد لأنها أم مصابة بفقد ولد أصغر منه, وآخر أكبر يعاني من إعاقة جسدية ولا أولاد إناث ومحمد كان الطفل الوحيد الذي أملت في أن يكون سندها ويعوضها ما فقدته كونها أحبت

دوما أن تكون أما تتعب وتسهر وتربي وتبني نموذجا صالحا من نماذج المستقبل الا أن الله اختبرها وزوجها في هذا البلاء. وكم عساها فقدت بعد محمد إذ رحيله غير حياتها, وبموته مات القلب الصغير الدافىء, انطفى قنديل النور… ورحل…

رغم عمره الصغير, ففي قلبه ولد الحب الروحاني والعشق الالهي يصلي ويصوم حاضرا دائما في المسجد يسمع الدعاء, ويشارك في المجالس الحسينية..

موت الأخ الصغير كان موجعا لقلب محمد الذي تعود أن يلاطفه ويلاعبه. شعر بفراغ كبير بعد رحيله, وطال به الصمت حتى استعاد وعيه واقتنع بأن أخيه لن يعود.

أما عن أهم الأشخاص في حياة محمد بعد أمه, جدته التي كانت تسايره بدورها, وتعطيه من الحنان ما لم تعط حفيدا آخر, فكان يحبها الى أبعد الحدود وإن غابت يسأل عنها, ويذهب الى زيارتها فيحدثها كما الرجل الكبير المليء بالثقة مع لمسة هائلة من البراءة.

في اليوم الذي توفي فيه كغيره من الأيام منذ الصباح يلعب ويمشي ويخطط لبماراة في كرة القدم عاد الى البيت مساء, ولم يطلع عليه صباح…

حجم الأسى عند أمه من بعد ذاك اليوم أكبر من حجم شتاء عاصف في ليلة مجنونة, فيضان بركان هو, أو انتفاضة غربة, خمسة عشرة سنة ان رف جفنه تحويه, ان طلب شربة ماء فاضت بيديها ينابيع , ان وقف ليمشي ترقب الطريق بعينيها خوف عثرة, كانت تتباهى به في طلعته أحلى الرجال. خمسة عشر سنة ألبس بعدها السواد لقلبها واقتنعت بسفره الطويل تلملم ما بقي من ورق أو صور. يعز عليها رؤية صديق أو صديقة له يكبرون ومحمد لا يكبر معهم, تتعتب عليه لتلك الزيارة الصغيرة لدارها ولدار الدنيا, خمسة عشر سنة ومن عساه يشبع من سنين البراءة. اخوته مقدرا لهم الموت, الا أن صدمة عمرها كانت بذاك الجسد المعافى من الآفات الجسمانية وحتى ذنوب الدنيا.