كتبت رمال جوني في صحيفة “نداء الوطن”:
لم يجد علي حلاً سوى بسطته الصغيرة، يلاعب عبرها احلامه المسروقة، لم يكتب له أن يعيش طفولته، فالظروف حكمت عليه بالعمل باكراً. يجلس على كرسي صغير قبالة طاولة صغيرة وضع عليها بضع عبوات منظفات واشياء أخرى، علّه يسترزق بعضاً من المال يعود به لعائلته. ترك طفولته جانباً، وحتى طموحه بإكمال الدراسة، فالظروف التي يواجهها فرضت عليه العمل، مثله مثل كثر ممّن يعملون في سن مبكرة لاجل محاربة ظلم الفقر والعوز.
ابن الإثني عشر ربيعاً يبيع المنظفات عند نزلة حي المسيحيين في النبطية، يسعى لكسب قوت يومه بعرق جبينه، عادة ما يخذله النعاس، فيأخذ قيلولة صغيرة، بإنتظار زبون عابر يشتري منه، غير أن قلة من العابرين تتوقف، فالناس “ما معها تشتري، وأنا بحاجة لأعمل” هذا ما يبادرك بقوله حين تسأله عن الحال. يحاول ان يكون على قدر المسؤولية، فالحياة ظلمته كثيراً، يريد أن يؤمّن لقمته بعرق جبينه على ان يتسوّل في الطرقات. واجه ظروفاً صعبة، إضطر للنوم لأيام في الجوامع، واحياناً يبحث عن الأمان، ما يريده الامان لا أكثر، وايضاً “روح العائلة” التي يفتقد اليها فوالداه مطلّقان، وهو يدفع ثمن الانفصال.
إختار علي العمل بمفرده، أخذ قراره بتأسيس منظومته الإقتصادية بالرغم من علمه المسبق بأنّ الواقع “مش منيح” وأنّ الغلاء “طاحش” قد يصيبه برأسماله الصغير، ومع ذلك مضى في مشروعه الصغير “بسطة ع قدّ الحال” طامحاً الى أن يستقرّ الحال وتعود حركة البيع والشراء كما كانت. يقول: “إخترت معقّمات صنع منزلي وهي رخيصة الثمن علّها تستقطب الزوار، غير أن الناس لا تلتفت الينا نحن الصغار”.
في قرارة نفسه يريد من عمله أن يكون إنساناً فعّالاً منتجاً، “لأننا نعيش في غابة القوي يأكل الضعيف، عانيت كثيراً في طفولتي، حُرمت من كل الحنان، لذا أجد في عملي متنفّساً، فهو عائلتي الجديدة”. لا يتسوّل علي ولا يشحذ، بل “اعمل بعرق جبيني، خبرت الكثير من الأعمال بالرغم من صغر سنّي، من الحدادة للدهان، لبويا السيارات للخضار وغيرها، ولكنني قررت العمل بالتجارة، فالبسطة تجارة، وآمل في أن يسعفني حظي وأنجح بالرغم من علمي المسبق بأن في لبنان لا تشجيع للمبادرات الصغيرة، بل تحطيم لها”.
ساعات طويلة يمضيها في عمله رافضاً الإنهزام “ما بدي كون عاطل عن العمل”، يفكّر بأفق واسع، يحلل القضايا المحلية، فهو “إبن المصلحة” ويعرف كيف تحاك الامور. ينصبّ اهتمام علي على نجاح عمله، يسعى ليطوره ما إن ” تفرج الاحوال”، يعتقد أنّ “عمله الصغير نجاح له، بالرغم من كل الصعوبات”، اذ يقول: “أتحدّى كل الظروف لأعمل، فالحياة تريد رجالاً، لا تريد عاطلين عن العمل”. يخفي خلف عنفوانه قصة طفل يريد البقاء على قيد الحياة بأي شكل، فهو عانى مرارة كبرى، ويرى بعمله فرصة للخروج من نفقه الحزين على حدّ قوله. يجسّد علي واقع الشباب المرّ، ففي الوقت الذي خسر قسم كبير منهم العمل، شقّ علي طريقه نحو التجارة، يرى عبرها حلمه، وما يخافه أن “يسرق الفساد الذي نخر كل شي حلمه الصغير”، يقول: “عم اشتغل لكون قد المسؤولية، ما بدّي كون إجر كرسي”، يطمح أن تتبدّل احواله “وأعود يوماً الى مقاعد الدراسة، فالعلم نور، أريد أن أؤسس حياة مختلفة عما عشته، فأكره طفولتي لأنني حرمت منها”.