غانتس يهدد من ثكنة برانيت.. فليسأل عن الكولونيل غازي!

سامر الحاج علي

ربما شاءت الظروف أن يطلق وزير حرب كيان الاحتلال بني غانتس تهديده الأخير من نقطة مشرفة على بلدة عيتا الشعب الجنوبية، معلنًا أنه سيقصف ويدمّر ويلحق الضرر إلى حد كبير بلبنان ومقاومته وشعبه.. لكن، مهلًا بني غانتس..

لعل الصدف تأتي في العمر مرة، الا أنه في تجربة التحدي التي يخوضها شعب لبنان ضد الإرهاب الصهيوني المتطرف، لم يتعلّم الصهاينة إلى اليوم من تجاربهم التي كانت بعد ولادة حزب الله مختلفة تمامًا عما قبلها. ويعرف غانتس تمامًا عما نتحدث هنا.. وإن كانت قد خانته ذاكرته وهو الذي قاد قوات الاحتلال البرية في حرب لبنان الثانية الكفيلة بأن يفقد كل من شارك فيها الذاكرة بعد أن رأى بأم عينه ضروبًا من الخيال التي تستحيل واقعًا وتحيل معها جيشًا بأكمله إلى الهزيمة، فمن المفيد أن يبحث في ذاكرة الإعلام أو من بقي على قيد الحياة من ضباطه وجنوده في فرقة الجليل – التي من مقرّها أطل الثلاثاء – أو غيرها من الفرق والوحدات التي حاولت أن تدخل عيتا الشعب عمن كان يقود عملياتهم متخذًا من برانيت نفسها مقرًا للعويل الذي يأتي على هيئة تهديدات، واسمه “الكولونيل غازي” والذي كان كلما ملّ من التهديد جال بين حدب عيتا والراهب مجددًا هزليته.. وكذا هو الحال مع بني غانتس مع اختلاف في الزمان والمكان وفي درجة الغباء المتزايد على وقع الخوف في وجه تعاظم قدرات المقاومة في لبنان.

وبين غازي وأهل عيتا، حكايا يرويها من كان “على السمع” هناك خلال الأيام الأخيرة من حرب لبنان الثانية، يومها ولما استعصى على الغزاة إسقاط البلدة، وكان مجاهدو المقاومة الإسلامية قد استدرجوا جنود ألوية النخبة إلى مدرسة المعاقين، وألحقوا بهم الضربات الفادحة في أبو طويل والرجم وخلة الكفافات وغيرها محوّلين عربات الرب المسماة في الفكر العسكري بدبابة الميركافا إلى توابيت متنقلة تمشي والنار تلاحقها، يومها عرّف غازي عن نفسه بعد أن دخل على موجة لاسلكية يستخدمها المقاومون، وبدأ بدعوتهم إلى تسليم أنفسهم قبل أن يأتيهم الموت على يد جنوده، مهددًا بأنه سيدمر عيتا على رؤوسهم إذا لم يستسلموا..

قال غازي، والكلام يرويه أحد ضباط المقاومة الإسلامية الذين كانوا في غرفة عملياتها في عيتا حينها: أنتم لا تعرفون من يقاتلكم، عليكم بالاستسلام ولا جدوى من مواجهة “جيش الدفاع”..

كان غازي عقيدًا يتفاخر بقدرة جيشه لكن الرد حينها لم يتأخر، وتركه المجاهدون الذين كانوا يسمعونه لأبو محمد سلمان – القائد الشهيد إبراهيم محمود الحاج – الذي قاد عيتا نحو النصر، فقاطعه مباشرة وخاطبه بلسانٍ حسيني استشهادي: “يا ابن الأدعياء، لست تدري من تقاتل.. نحن أبناء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، والله لا نعطيك إعطاء الذليل ولا نقر اقرار العبيد فاسعَ سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا وهل أيامك إلا عدد، وهل جمعك إلا بدد”.

من بعدها دمرت طائرات العدو ومدفعيته عيتا فعلًا، ولكن أخبار غازي وصوته الذي كان لا يعرف إلا التهديد اختفيا تمامًا بعد أن استهدفت المقاومة ثكنة برانيت بصلية من الصواريخ، ومذ ذلك الحين لم يعد للثكنة ومواقعها الملحقة بها من الناقورة إلى آخر نقطة تتموضع فيها فرقة الجليل أي قيمة، وكذا ثكنات العدو وحصونه في فلسطين كلها، فكيف سيكون الحال إذا ما كان تهديد غانتس جاء من نفس المكان الذي هددنا منه غازي؟

ربما لم يكن غازي قبل تموز متمرّسًا في أساليب السقوط في وحل المواجهة مع حزب الله ولكن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة لمن يتربع على كرسي قيادة جيش العدو اليوم، فغانتس خاض التجارب في لبنان منذ العام 1982 على أقل تقدير، يعني أنه لمس بأم عينه بأس المقاومين والاستشهاديين والمجاهدين الحاضرين لخوض غمار أي مواجهة تفرضها الظروف والمعادلات وقرارات قيادتهم الحكيمة، يعرف غانتس كيف كانت تتساقط أجساد جنود وحدة المظليين في أفخاخ الجنوب وهو الذي قادها وخدم في صفوفها، يعرف تمامًا كيف سقط ايرز غرشتاين وهو الذي خدم من بعده في قيادة قوة الارتباط في لبنان، ويعرف جيدًا كيف انسحب جيشه ذليلًا وخائبًا من جنوب لبنان في عام ألفين وهو آخر الضباط الذين أقفلوا خلفهم صفحة من هزائم لم يحكَ إلى اليوم عن الكثير من وقائعها، والأهم أن غانتس نفسه يدرك كيف يكون الموت قدرًا محتومًا لمن يتخطى حدوده في المواجهة لكونه جرّب الكمائن والشدائد والوقعات القاتلة عندما قاد قوات كيانه البرية في حرب تموز من العام ألفين وستة، ووادي العيون تشهد وكذا مارون ومثلث التحرير ووادي الحجير وسهل الخيام ومشروع الطيبة ولائحة القرى طويلة ولا تنتهي.

وبعد، يحكى عن غانتس أنه الجنرال السياسي الذي يسبق فكره لسانه، إلا أن هذا لم ينطبق في الواقع على فلتات لسانه الأخيرة وما احتوته من تهديدات للبنان، فإن كان غانتس طامحًا بما يكفي فليجهّز من الآن خططه لإعادة تنفيذ سيناريو عملية “شلومو” التي قادمها أوائل التسعينيات ولكن بطريقة معاكسة هذه المرة، فهو بدلا من أن ينقل يهودًا إلى كيان الاحتلال ستكون الوجهة معاكسة ومن فلسطين وإلى حيث أتوا، وليحرص على توفير وسائل آمنة لنقلهم رغم أن لا شيء سيكون آمنًا إذا فُتحت خطوط المواجهة على مصراعيها.

وليتعلم غانتس من تجارب أسلافه الذين عاصرهم كلهم، وحبّذا لو اتعظ من تجربة الكولونيل غازي – الذي يعرفه تمامًا – وليهدئ من روعه وروع مستوطنيه المتروكين بلا أدنى حماية منذ أشهر بعد أن غاب الجنود في أوكارهم خوفًا من طلقة عند الحدود، وحسنًا يفعل إذا قلّب في كل يوم روزنامة الأحداث الماضية متّعظًا، وحسنًا فعل عندما استذكر منذ أيام مقتل 73 من جنوده في لبنان عام 1997 ليعرف أن هذه الأرض لها جنودا يدافعون عنها، وربا يحرسها من كل شيطان مارد.