رسالة قاتلة بقلم د محمد احمد حمود ! كيف أصبَحْنا وأضحَيْنا هنا؟

عندما يُهاتفني موظّف رسميّ، قضى في وظيفته ثلاثين عامًا، لأمرين!
#الأول: يطلبُ منّي أن أتوسّط له مع أحد معارفي في أفريقيا، كي يعمل ولو« ناطورًا»، «عاملًا عاديًّا»، سائقًا…! قالها بغصّة وقناعة وإلحاح! وعندما بادرْته بسؤال العارف، لماذا؟ فأنت موظّف رسميّ فئة رابعة، وراتبك…! وعمرك ناهز على السّتّين، ولديك شهادة عُليا! قال لي! لديّ أبناء خمسة بين المدرسة والجامعة، وزوجة مريضة! منذ أشهر عدّة وأنا أتوارى من أبنائي وبناتي! بتّ أخجل من ابنتي وهي تطلب منّي إصلاح جوالها القديم، وبتّ أفرّ من ابنتي الصّغرى وهي تطلب منّي حبيبات من فواكه موسميّة مرغوبة، أو قطعة حلوى تشتهيها! بتّ أخجل من دفع أجرة الطريق، شراء كتاب، طباعة أوراق، دفْع مستحقات الماء والكهرباء والانترنت… وهل يستطيع من هو مثلي أن يشتري لولده هاتفًا جوّالًا مستعمَلًا ليتابع دراسته عن بعد؟ استدَنْتُ المال من أجل استبدال عجلة واحدة لسيّارتي المتفكّكة! استدَنْتُ المال من أجل شراء أحذية عتيقة وملابس عتيقة! وسأستدين المال من أجل إصلاح ثلاجتي، واستبدال زجاج حطّمه الهواء عنوة! منذ سنين وأنا آكل وأشرب وأتداوى وعائلتي من قيمة راتبي الزهيد! كنتُ أقول دائمًا، سيتحسّن الحال! والناس تأخذني بألسنتها: إنّه موظف رسمي«شو على باله»! منذ ثلاثين عامًا وأنا أبني في منزلي، أفرش، أرمّم،،، وما زالت غرفه الصّغيرة غير مكتملة الأثاث! منذ ثلاثين عامًا وراتبي يوصلني إلى حافة الشّبع، وأحيانا كثيرة الى منتصف الشهر على الرّغم من الحرص والتقشّف! فراتبي الآن لن يتجاوز «المئتي دولار»! هل تعلم كيف نعيش منذ ما يقارب العام؟ هل تعلم ماذا حرَمْنا أنفسنا بعد الحرمان الأوّل؟ نحن نأكل الآن كي لا نجوع، نخشى من أيّ طارئ، من جشع التجّار، والسّاسة التجّار، والوطن التاجر! بناتي في الجامعة كيف يعيشون؟ وبناتي بين المجتمع ماذا يلبسون؟ لا يهمّ، لقد علّمتهم القناعة، ولكن، إلى متى؟ وأدوية امرأتي بين المفقود والمجهول والثمن المفجوع… لن أتحدّث أكثر هذا يكفي! حينما أقفل سماعة الهاتف، قلْتُ في نفسي :
ربّاه! كيف يعيش العامل هنا، كيف يعيش من لا راتب له آخر الأسبوع والشهر؟ كيف يعيش الفقير المتأوّه بصمت؟ كيف يعيش المستور المتخفّي خلف جدران منزله الأربعة ووظيفته المتواضعة التي كان يُشارُ إليها بالبَنان، على سبيل الفخامة والشياكة واليُسر والحسد! لقد ماتَ كلّ شيء في وطني! أماتوا الضحكة والدمعة، وقتلوا الرغيف ولقمته المغمّسة بالزيت! عاش السّاسة الفاسدون السّارقون النّاهبون الموسرون على أجساد الشّعب الهزيل!
في الطلب #الثاني، قال لي: أحبّذُ أسلوبك في الكتابة، فاكتب لي! ولكن لا تذيّله باسمي! نسي الموظف راتب تقاعده الذي لن يُغنيه من جوع، وتناسى أنّ أمثاله بات يعجّ بهم الوطن وتضجّ بهم الأزقة والأروقة والزواريب، ومَنْ هم دون حاله، ومآله، وأوجاعه ينتشرون على أكبر مساحة في الوطن الذي قتله الجالسون في القصور، وعلى الكراسي المتنوّعة الأحجام، يعطون الأوامر الصارمة باسم الوطن والإنسان، كي نجوع!
سأحاول أن أنقل طلبه المعقول والصريح إلى أحد معارفي، عسَى أن ألقى ونلقى جوابًا طيّبًا! ولو موجعًا. بقلم د. محمّد حمّود.